الحراك الشعبي: البداية.. والحال الراهنة
شكّل انطلاق معظم الحراك الشعبي في سورية من المساجد فرصة لاتهامه بشكل سطحي بأنه ذو صفة فئوية من نوع ما، وجاء تعاظم نشاط هذا الحراك يوم الجمعة تحديداً، ليرسّخ هذه الفكرة أكثر لدى الكثيرين خصوصاً مع انتشار المفردات الطائفية بشكل ملفت وتعالي الموجة الفئوية في البلاد..
ورغم هذا الملمح الأولي الهام أقنع بعض المثقفين والناشطين أنفسهم بأن الخروج للتظاهر من المساجد ليس له صفة دينية، فأماكن الاحتشاد العامة غير متوفرة أو مسموحة، وبالتالي فإن التجمع الوحيد المسموح في سورية هو المسجد، وخصوصاً في «صلاة الجمعة»، وأن المسجد بحكم هذه الإمكانية هو المكان الوحيد الذي من الممكن أن تنطلق منه هذه المظاهرات، فشاركوا بتردد..
وقد انطلقت المظاهرات بدايةً لتهتف للحرية والعدالة والتعددية السياسية وهو ما جعل العلمانيين وغير المتدينين عموماً، المشاركين في الاحتجاجات، يشعرون بشيء من الارتياح فازدادت نسبة المنضمين منهم إلى هذا المركز العام للتجمع، وهو ما طبع الشهر الأول للحركة الاحتجاجية في البلاد.
ولكن ما لبثت المساجد وروادها أن تحولوا؛ بسبب البطء في المضي نحو الإصلاحات، والإصرار على الحل الأمني، والشحن الطائفي الذي تبثه مختلف المحطات الفضائية، والمحلية الرسمية وشبه الرسمية منها على وجه الخصوص، إلى متطرفين يدعون إلى الجهاد.. وارتفعت الهتافات الطائفية من كل نوع.. دون أن يطرح واحد من رافعي هذه الشعارات الدخيلة سؤالاً عميقاً على نفسه: الجهاد ضد من؟!! ومع من؟!!..
وهكذا انحدر الخط البياني لمفهوم المواطنة في الحراك، ومن ثم في سورية بشكل ملحوظ تحت ضغط الاحتقان المتزايد والفرز الوهمي والتجييش الإعلامي.
وطبعاً كان لصفحات «الثورة السورية» وغيرها المثيلة أو المناهضة لها، إلى جانب الاستمرار في الحل الأمني من جانب السلطات السورية، والتقليدية المقيتة التي يعيش فيها الخطاب الرسمي السوري، الدور الكبير في إحداث هذا الانزياح الواسع عن الوجهة المطلوبة للحركة الاحتجاجية، وانجر راكبو الحراك وراء مسميات فئوية أو ما قبل مدنية أو وطنية، وهكذا بتنا نرى مصطلحات قروسطية من قبيل «جمعة الحرائر» أو «جمعة العشائر»، وهو ما جعل العديد من المثقفين الذين دعموا التحركات الشعبية تحت مسمى دعم الحرية والتغير الديمقراطي، جهاراً أو ضمناً، يقصون أنفسهم ويقفون مطولاً أمام هذه المسميات والأفكار التي تبثها صفحات تحمل مثل هذا الفكر، وتسعى إلى نشره بين الشباب، ما شوه التحركات الشعبية المطلبية المحقة، وجعل المتظاهرين المطالبين بالإصلاح عرضة للاستهداف الأمني بسبب التداخل بين المطالبين بالحرية والديمقراطية الشعبية، وبين متطرفين يسعون نحو إمارات مذهبية وطائفية.
المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، التنظيم سيئ السمعة، والذي بدأ مع الشحن الطائفي وتعالي الحالة الإلغائية، يستعيد شيئاً من قاعدته الشعبية، أثنى على ما أسماه «الموقف التركي تجاه الشعب السوري وامتدح اتصالات رئيس الوزراء التركي بالرئيس السوري بشار الأسد التي طالبه فيها بتسريع وتيرة الإصلاح» مستدركاً «لكن لا حياة لمن تنادي..».
وبعد هذا الخطاب يمكننا أن نقول إن الحراك الفئوي في سورية بدأ البحث عن الحلفاء المشابهين في المنطقة وهو أمر مخيف حقاً، فبعد محاولات التواصل مع التيارات المشابهة في كل من مصر والأردن ولبنان، بدأ البعض يحاول التواصل مع تركيا، التي اندفعت نحوهم بشكل كبير بعد تصريحات رئيسي الوزراء والجمهورية اللذين يمثلان التيار الإسلامي في تركيا، وبدأت تركيا بالتحشيد استعداداً لحماية «أهل السنة» في سورية، وهو ما ضخم الاحتقان الطائفي في البلاد.
اليوم ومع تعالي الأصوات الطائفية إلى مستوى غير مسبوق في البلاد، على المثقفين السوريين الدفع نحو إعادة الحراك الشعبي في سورية إلى نقائه الأول، وإقصاء التوجهات الإلغائية منه عوضاً عن إقصاء أنفسهم، وهو ما ينتظره المتطرفون الذين يبدو حقدهم تجاه التيارات الفكرية الأخرى ناجماً عن حقد على كل ماله علاقة بالوحدة الوطنية والتسامح والثقافة.