ضحايا للحصار والجوع: أهالي «الغوطة الشرقية».. يدفعون فاتورة الأزمة
يعاني من تبقّى من أهالي الغوطة الشرقية بداخلها من حصار مزدوج، فمن ناحية يفرض ما يسمى بـ «لواء الإسلام» و«الجيش الحر»،
اللذان يسيطران على معظم مدن وبلدات الغوطة، شروطاً قاسية على حياة الناس المعيشية، في حين تمنع بعض الحواجز الأمنية المحيطة بالمنطقة دخول المواد الغذائية إليها. ويستغل سماسرة الأزمة وتجّارها هذا الظرف، ويجري كل ذلك، وسط غياب أي دور حكومي فاعل
مجرّد الدخول إلى الغوطة الشرقية، من أي مدخل، هو مغامرة كبيرة، قد تكلّف المرء حياته. فعلى الراغبين بالدخول إلى هذه المنطقة أن يخضعوا لتفتيش دقيق، لعل أحدهم قد «هرّب» معه أي شيء من قائمة «المواد الممنوعة»، التي هي ببساطة كل شيء قد يحتاجه المرء، والأغذية بالدرجة الأولى، التي أصبح توفرها الشغل الشاغل للناس، بحسب الروايات الواردة من الغوطة..
يروي أبو أحمد من منطقة المليحة لـ«قاسيون»، كيف أن بعض عناصر الحاجز الذي يقع على مدخل البلدة، يجبرون الأهالي على ترك كل شيء معهم عند الحاجز، «حتى ولو كان ربطة خبز، أو سطل لبن»، والسبب، بحسب عناصر الحاجز، هو الحؤول دون وصولها إلى المسلّحين، «علماً أن ما يسمى الجيش الحرّ ولواء سعد بن عبادة، في المليحة، ليسوا بحاجة إلى ربطة خبز أو غيرها، فقد أصبح معروفاً للجميع، أن الدعم يصلهم حيث يكونون. هم وعائلاتهم الوحيدون في البلدة الذي يعيشون عيشةً رغيدة». أما الفقراء، الذين لم يبقيهم في الغوطة الملتهبة إلا ضيق الحال، وعدم القدرة على تكلّف عناء النزوح، «فهم وحدهم ضحية الشروط الصارمة التي تفرضها الحواجز على مدخل الغوطة». والحال نفسها تتكرر في معظم مداخل الغوطة الأخرى.
المسلّحون... حصارٌ من الداخل
في المقلب الآخر، يفرض المسلّحون حصاراً مماثلاً على الأهالي، ففي الصيف الماضي منع «لواء الإسلام» الفلاحين في الغوطة من نقل خضارهم إلى دمشق لبيعها، والذريعة ذاتها تتكرّر: «لمنع وصولها إلى متناول يد النظام»، حتى بلغت أسعار الخضار في دوما، على سبيل المثال، أقل بـ 10 إلى 15مرّة وسطيّاً من نظيراتها في العاصمة، «فكيلو الكوسا بـ 7 ليرات فقط في بلدات الغوطة، في حين كان سعره في دمشق 120 ليرة»، يقول أحمد المديراوي، أحد سكان قرية حوش الضواهرة المجاورة لدوما، ويضيف لـ«قاسيون»: «ويمنع اللواء أيضاً نقل اللحم، الذي يتوفّر بكثرة في الغوطة، إلى دمشق، حتى بلغ سعره في دوما حوالي ربع سعره في دمشق تقريباً».
ويستولي «لواء الإسلام» على مادتي الخبز والطحين في بلدات الغوطة المختلفة، وينقلها إلى حيث يتواجد عناصره، في دوما بشكل رئيسي، الأمر الذي أدى إلى غياب شبه كامل للخبز في معظم قرى وبلدات الغوطة، باستثناء تجمّعات المسلّحين وعائلاتهم، وأصبح الأهالي «يستبدلون الخبز بورق الملفوف في لف السندويتشات لأبنائهم»، يقول المديراوي، ويعلّق ساخراً: «خصوصاً أن الخضار لدينا أكثر من التراب، بعد أن منع نقلها وبيعها في الشام».
حلول إبداعيّة.. ومأساوية
نتيجة لغياب المواد الأساسية، أو ارتفاع أسعارها إن وجدت، لجأ الناس إلى الاحتيال على الموت، وعلى الحواجز بكل أصنافها، وذلك من خلال «تهريب» الغذاء إلى داخل الغوطة، بأساليب مبتكرة، وبجرأة منقطعة النظير. يقول أبو سلام، الذي يعمل بالقرب من مدخل دوما، من جهة مخيم الوافدين، لـ«قاسيون»: «النساء والأطفال هم عماد عمليات التهريب تلك»، فتقوم النساء بنقل الطعام تحت ملابسهن، وهذا الأمر بات معروفاً لدى عناصر الحواجز، ولكن يجري التغاضي عنه أحياناً، ولاسيما أنهم يعرفون جيداً أن هذا الطعام الزهيد حتماً هو ذاهب لأطفال هذه المرأة أو تلك. ولكن ما هو أخطر من ذلك، هو قيام الأطفال بتهريب الخبز عبر البساتين، التي هي عادةً منطقة اشتباكات، يروي أبو سلام: «أصبح قيام الأطفال بتهريب الخبز إلى داخل دوما والقرى المجاورة لها، مشهداً يوميّاً نراه من نوافذ المؤسسة التي نعمل فيها، الأطفال يركضون محمّلين بربطات الخبز، وعناصر الحاجز يطلقون النار في الهواء، بعضهم ينجح بالعبور، والبعض الآخر ينتظر فرصة أفضل ليعيد الكرّة». ويصادف أن تتزامن عمليات التهريب تلك، التي يقوم بها الأطفال، مع اشتباكات في المحيط، أو وصول الرصاص الطائش إليهم، ما أدّى إلى استشهاد وجرح عددٌ منهم غير مرة.
ما وراء الحصار... تجّار الأزمة
وجود حِصارين لا يعني عدم دخول البضائع وخروجها من وإلى الغوطة الشرقيّة، فليس ما يدخله الأطفال والنساء إلا القليل القليل منها، وهو ما قد يقيتهم ليوم أو أكثر، أما البضائع التي تدخل بالجملة إلى الغوطة، فتأتي عبر سماسرة، على تواصل مع قطبي الحصار. يقول «س. حمدان»، مقيم في مخيّم الوافدين، المقابل لمدينة دوما، لـ«قاسيون»: «يوجد سماسرة، أشبه بالمتعهدين. هم من يقومون بإدخال المواد التموينية إلى داخل الغوطة، فيرفعون من أسعارها على مرحلتين، الأولى: في مخيم الوافدين، الذي أصبح بدوره سوقاً سوداء لتهريب البضائع إلى داخل دوما. والثانية: عندما تصبح البضائع في داخل دوما»، فكيس السكر (50 كغ) على سبيل المثال، يصبح سعره 15000 ليرة في المخيّم، وفي دوما 35000، وكيس الطحين (25 كغ) سعره في المخيم 6000 ليرة، وفي دوما 15000، ويجري تهريب مادة السميد أيضاً، عبر هؤلاء، لكي تعجن وتخبز في داخل دوما، هذا بالإضافة إلى مواد أخرى.
وليس بمقدور المدنيين القاطنين في الغوطة شراء البضائع بتلك الأسعار الباهظة، إلا أن المسلّحين «زبائن» دائمون لدى تجّار الأزمة، «فهم من تصلهم الأموال بالجملة في المقابل، ومستعدون دائماً لدفع السعر الذي يطلبه التجّار».
وقامت بعض عناصر «اللجان الشعبية»، في مخيّم الوافدين، بتشديد منافذ «تهريب» الأغذيّة، يضيف حمدان: «لا يسمح لأي مواطن بإدخال أكثر من ربطتي خبز معه إلى مخيّم الوافدين، الذي لايزال يقع تحت سيطرة الدولة. وفي المخيّم يجري بيع الخبز على (دفتر العائلة) بقيمة 60 ليرة فقط كل ثلاثة أيام، هذا بالإضافة إلى ملاحقة الأولاد القادمين من القرى المحيطة بدوما، لشراء الخبز».
تحت ذريعة منع وصول الغذاء إلى الطرفين، يجري منعه من الوصول إلى أفواه المدنيين، الذين هم من يدفع فاتورة تعنّت المتشددين، وخيارهم بالذهاب إلى حربٍ لا تبقي ولا تذر. إلا أن أحد الأسباب وراء هذا الحصار، وغيره الكثير على الأراضي السورية، هو النهب الذي يمارسه تجّار الأزمة في وضح النهار، لذا أصبح من الضروري على الجهات الحكوميّة أن تتحمّل مسؤولياتها، في محاسبة هؤلاء التجّار، وحماية أرواح الناس، التي قد تصبح ثمناً لرغيف خبز.
دوما ومحيطها: «فوارق طبقيّة»
يحتجّ أهالي القرى المجاورة لمدينة دوما، حوش الظواهرة وحوش الفارة ومديرا، على كونهم هم بالذات من يدفع ثمن الحصار. يصف أحمد المديراوي، لـ«قاسيون»، أهالي ما يسمى بمقاتلي لواء الإسلام في دوما بأنهم «معزّزون ومكرمون»، قياساً بأهالي القرى المجاورة، الذين نأى معظمهم عن المشاركة في الصراع المسلّح، منذ بدايته. ويضيف: «في الوقت الذي يغامر فيه أولادنا بالذهاب إلى مخيّم الوافدين، والاحتيال لجلب طعام لا يكفي العائلة ليوم واحد، تصل مختلف أنواع المؤونة والبضائع، إلى مقاتلي لواء الإسلام، فهؤلاء لديهم الكثير من الأموال». ويدفع أحياناً ضيق الحال بأهالي تلك القرى إلى بيع ما يتمكّنون من نقله، من بضائع، إلى قراهم، من مخيّم الوافدين، «فلا أحد يهمه أمرنا، نحن بين من لديهم، ليس فقط إمكانات المعيشة المقبولة، بل المقدرة الماديّة على خوض الحروب».