عشوائية الخدمات الحكومية.. هي أصل المعاناة !
بعيداً عن المناوشات والقيل والقال، وقريباً من الواقع الذي يتجاهله الكثيرون، ما هي المناطق العشوائية في دمشق، وكيف يمكن تنظيمها بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن معاً؟! للإجابة عن هذا السؤال لابد من معرفة طبيعة سكان هذه المناطق وتحديد أسباب سكنهم فيها، ثم لابد من تحديد الجانب الذي يسبغ على هذه المناطق صفة العشوائية، ونهايةً لامناص من تحديد المتضرر الحقيقي من عشوائيتها لتصحيح حاله العشوائية!.
تقسم المناطق العشوائية من حيث الزمن إلى نوعين؛ قديمة وحديثة، الأولى: جاءت استجابةً لوضع تاريخي/جغرافي/ديمغرافي شبه طبيعي، والثانية استجابةً لسياسات اقتصادية غير اقتصادية، حيث توسعت دمشق بدايةً (نحو الغرب والشرق) لاستيعاب أعداد السكان المتزايدة سواء بالتوالد الطبيعي للمحليين أم توافد الساعين إلى العمل في العاصمة من أبناء المحافظات الأخرى، لتستولي أبنية الإسمنت على الأراضي الزراعية (الغوطة بكل مسمياتها) وغير الزراعية (المهاجرين، ركن الدين، المزة..الخ). ثم جاءت العشوائيات الحديثة مع توزيع جديد للسكان الذين يشكل أبناء المحافظات الأخرى الهاربون من سوء وضعهم الاقتصادي الغالبية الساحقة منهم فقامت مناطق سكن جديدة (جبل الرز، وادي المشاريع، حي الورود..الخ)، ولاسيما بعد أن فقد معظم المزارعين، في الجزيرة السورية وبقية المناطق الزراعية من البلد، ثقتهم بحماية الحكومة لهم من جهة وبكفاية ما تدره الأرض عليهم من جنىً وربح مادي لأسباب عديدة، أهمها:
ـ تجاهل واضعي السياسات الاقتصادية لتردي واقع القطاع الزراعي، وقصر نظرهم عن قراءة مستقبل المناطق الزراعية المناخي، وبالتالي انعدام جدوى حلولهم المتأخرة لتصحيح الوضع فيها.
ـ يلي ذلك ضعف مردود الزراعة على العاملين فيها نتيجة تسلط بعض كبار التجار والمتنفذين على محاصيلهم، وشرائها منهم بأبخس الأثمان، ما دفع بأكثرية المزارعين للبحث عن مصدر إعالة مغاير لجنى الأرض.
وبذلك يمكن تقسيم سكان المناطق العشوائية إلى صنفين، صنف أول يحصل رزقه من أعمال ثابتة في الشكل مؤقتة في النوع، وغالباً ما تكون ضئيلة الأجر (سكان المناطق القديمة) وقد سكن هؤلاء عشوائياً مدفوعين بضرورة البقاء قرب مصدر رزقهم تحت سقف رخيص الثمن يجمعهم وعائلاتهم الصغيرة، وصنف ثان يحصل رزقه من اللمام الذي يتيسر له في سوق العمل (سكان المنطقة الحديثة) وغالباً ما يتركز هذا اللمام في أعمال البناء والتحميل، وفي القطاع الخدمي بمستوياته الدنيا..الخ، وهذه الأعمال (لمن لا يعلم) من أكثر الأعمال إجحافاً بحق الإنسانية، وقد سكن هؤلاء في هذه المناطق، إما مصادفةً وبما يتناسب مع توزع أقاربهم الجغرافي في العاصمة، أو لمقتضيات أخرى وبما يتناسب مع مكان عملهم الجديد (كما هي الحال في وادي المشاريع حيث قام عمال البناء الذين أشادوا مباني مشروع دمر ببناء بيوت هشة مرادفة بالقرب من أماكن الورش التي يعملون بها). وبذلك يمكن تحديد طبيعة سكان المناطق العشوائية بأنهم (في معظمهم) من أصحاب الدخل «المحدود والمحدد والمهدد بالانقطاع في أية لحظة»، أي أنهم هم المستضعفون!
وعشوائية هذه المناطق تنبع من جانبين، الأول من حيث التسمية التي كانت الحكومة أول من ابتدعها، والثاني من حيث التخديم الحكومي الذي تتلقاه هذه المناطق. وعشوائية التخديم في هذه المناطق تنقسم بدورها إلى نوعين؛ العشوائية الأولى التي تبدو من حيث الشكل العام للأبنية والبيوت المتراكبة على بعضها البعض، ومن حيث تمديدات الكهرباء والهاتف والصرف الصحي، والمواصلات والأسواق.. الخ، لكن هذه العشوائية (وتنطبق على المناطق القديمة والحديثة) تتميز عن الثانية بمميزات شديدة الأهمية هي: وجود المدارس (العامة والخاصة) وتوفر المستوصفات والعيادات الطبية بأنواعها والمخابز..الخ، أي وجود كل مستلزمات الحد الأدنى من العيش الإنساني الكريم.
أما العشوائية الثانية فهي عشوائية في كل شيء، حتى في طرقات هذه المناطق وحاراتها الفرعية التي لا تعرف لوناً من ألوان التخديم الحكومي، ناهيك عن فوضى تمديدات الكهرباء والماء والهاتف، بل وحتى سوء شبكات الاتصال الخليوية في كثير منها!.
بناءً على ما سبق، فإن المتضرر الحقيقي من عشوائية هذه المناطق الفقيرة دون أدنى شك، هم عمال الوطن وفلاحوه وصغار الكسبة فيه، وليست الحكومة متضررةً جراء وجود السكن العشوائي إلا بقدر ما تحمله هذه العشوائية من ضرر لمواطنيها، ويمكن الجزم أنه إذا ما تضرر المواطن فإن الوطن يصيبه الضرر أيضاً، وفي حالة العشوائيات ومساوئها، فإن الاقتصاد الزراعي هو أكبر المتضررين حيث فقد هذا القطاع ومازال العاملين على إدارة عجلته، وهنا وجب التحذير إذ لا يمكن تخيل مسؤول حكومي يزرع بيديه، بنفس الدرجة التي لا يمكن فيها تخيل مسؤول لا يأكل!
وللتخلص من عشوائية المناطق فإن على الحكومة: أولاً أن تعيد للمزارعين ثقتهم بمردود الأرض، وعليها حمايتهم من المتطفلين على رزقهم من تجار ومتنفذين، ما قد يعيد شريحة كبيرة من سكان المناطق العشوائية إلى بلداتهم وأعمالهم الزراعية التي تضمن لهم كرامتهم وتضمن للوطن أمنه الغذائي؛ وثانياً أن ترفع العشوائية عن هذه المناطق ـ اسماً ومضموناً ـ لاسيما من حيث التخديم بما يليق بكرامة المواطن الذي اضطره ضيق الحال إلى الإقامة في مساكن لا تليق ببني البشر. وذلك طبعاً بدل أن تسعى الحكومة إلى هدم مساكن مواطنيها بيدها فوق رؤوسهم والتضييق عليهم أكثر مما يستحملون، إذ «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها».. فإزالة العشوائيات لا تتم ولا يمكن أن تتم بإزالة البيوت الفقيرة، بل تتم فقط عبر إثراء حال سكان هذه البيوت وتخديم حياتهم بما يليق بهم كمواطنين سوريين ومن الضروري أن يكون ذلك بلا أدنى تمييز، إذ يفترض أنه «لا فرق بين نظامي وعشوائي في بلدنا... إلا بالتخديم»!