البوكمال على خط الفقر ...والنار!؟

يجهل الكثيرون أن محافظة دير الزور قد تعرضت للاحتلال البريطاني أولاً قبل تعرضها للاحتلال الفرنسي، حيث دخلتها القوات البريطانية من العراق عن طريق مدينة البوكمال، فما كان من أهالي الفرات سوى أن قاوموا القوات الغازية، وأجبروها على الرحيل من الوطن بفضل تضحياتهم.

وهاهو التاريخ يكرر نفسه من جديد، حيث تعرضت منطقة البوكمال لعدوان همجي أمريكي استهدف قرية السكرية، وأدى إلى استشهاد سبعة من المواطنين الأبرياء.

إن مدينة البوكمال ذات التاريخ النضالي والحضاري العريق تقف اليوم على خطي النار والفقر، نتيجةً للسياسات الإمبريالية في الخارج، والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية في الداخل، مما يدفعنا إلى طرح العديد من التساؤلات حول واقع هذه المدينة المنكوبة.

 

 

على خط النار !!

الموقع الذي وقع عليه الاعتداء الأمريكي هو عبارة عن بيت ريفي قيد الإنشاء، يقع في مكان مكشوف بين الشارع العام ونهر الفرات. والأسرة التي استشهد منها خمسة أفراد، هم الأب وأربعة من أبنائه، وجميعهم من عمال البناء، لم يبق منها إلا اثنان أحدهما يؤدي خدمة العلم، والثاني كان قد اضطر للهجرة إلى الكويت قبل العدوان، وللآن لم يستطع إيفاء قيمة الفيزا التي اشتراها. وأحد الشهداء لديه ولدان ضريران يحتاجان للكثير من العناية والرعاية.

فهل تكريم هؤلاء الشهداء وأسرهم يكون فقط بتوظيف أحد أفراد الأسرة؟ وماذا عن مصير بقية أفرادها؟ لماذا لا يكرمون معنوياً على الأقل بتسمية شوارع البوكمال وساحتها الرئيسية بأسماء أقاربهم من شهداء السكرية؟

ولعل التساؤل الأهم هو: كيف السبيل لمواجهة عدوان آخر محتمل في أي وقت؟ ولماذا لا تُفعَّل المقاومة الشعبية، التي أثبتت دروس التاريخ المعاصر أنها وحدها القادرة على صد العدوان، خاصةً أن شعبنا في البوكمال وفي كل أنحاء الوطن لديه الاستعداد لتقديم آلاف الشهداء دفاعا عن الوطن، وليس سبعة فقط!!

 

على خط الفقر!!

إذا كانت البوكمال تقع على حدود الوطن، فهي أيضا تقع على حدود الفقر، أو تحتها، فعلى الرغم من أنها جزء من المنطقة الشرقية، التي تنتج الكثير من خيرات الوطن، كالمحاصيل الزراعية الإستراتيجية (القمح والقطن)، والثروات الباطنية (النفط والملح)، إلا أنها تعاني من الإهمال والفوضى والتسيب، والنهب والهدر والفساد، حيث تندر فيها فرص العمل لخلوها من المعامل والمنشآت الصناعية الكبيرة، ويحرم أبناؤها من العمل في قطاع النفط إلا فيما ندر، نتيجةً لممارسات الشركات المتعهدة للتشغيل والإطعام، والتي تسرق الشعب والدولة بفعل الامتيازات الخيالية التي وفرتها لها العقود الاستثمارية الموقعة مع الحكومة، مما اضطر الكثير من أبناء المنطقة إلى ترك الزراعة والهجرة إلى الخليج العربي.

وأما من بقي منهم في بلدته ليعمل في الزراعة، فهو يعاني كثيراً كبقية فلاحي الوطن من ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، حيث أن السماد غير متوفر بالكميات الكافية في الجمعيات الفلاحية والمصرف الزراعي، لكنه يباع في السوق السوداء بسعر 850 ليرة للكيس، في حين أن سعره في المصرف حوالي 400 ليرة. ومؤخراً قامت الحكومة بعملية احتيال على الفلاح، إذ رفعت سعر شراء المحاصيل من الفلاح، لكنها في المقابل رفعت سعر كيس البذار من  400 ليرة إلى حوالي 600 ليرة!! والأدهى من ذلك أن أجور السقاية ارتفعت للدونم الواحد من 900 ليرة إلى 3000 آلاف ليرة.

أما مشروع الاستصلاح الذي تم تنفيذه مؤخراً، فهو يعاني من عدة عيوب، حيث أن الري منه يتوقف بتوقف المحاصيل، فتبقى الأشجار وحقول البرسيم وغيرها دون سقاية لمدة لا تقل عن شهر ونصف. وحتى الآن لم تتم إعادة توزيع الأراضي لأن مساحات كبيرة خرجت من الحصص نتيجة السواقي والقنوات، مما يخلق إشكالات اجتماعية كبيرة. ومما يثير الغضب أن نهر الفرات ملك للشعب بأكمله، إلا أن الفلاحين قد ألزموا بتركيب عدادات على محركاتهم التي تستجر المياه من النهر، ودفع ثمنها وفق شرائح متصاعدة!!

أما الثروة الحيوانية في البوكمال فقد تعرضت لما يشبه الإبادة بسبب الجفاف ونقص العلف، وقد وُعد المربون بوجبة علفية مجانية لمواشيهم، لكن هذا الوعد لم ينفذ، ويتداول المواطنون العديد من القصص المأساوية حول أحوال الرعاة، منها أن أحدهم كان يملك 300 رأس غنم، فاضطر لأن يذبح عشرةً منها يومياً نتيجةً لعدم وجود العلف، حتى لم يبقَ منها في النهاية سوى 30 رأساً، فقام بدهسها بالجرار لكي لا يراها تنفق جوعاً أمام عينيه!!!

   أما الوضع الخدمي فلا يقل سوءاً عن الوضع الاقتصادي بسبب الفساد والنهب والإهمال، فالمواطن يضطر إلى دفع 500 ليرة سورية لمتنفذي السجل المدني لكي يحصل على دفتر عائلة أو قيد نفوس، ويعاني الصرف الصحي في البوكمال من مهازل كبيرة، فقد خُصص مبلغ 97 مليون ليرة لتجديد شبكة الصرف الصحي التي لم يمض على إنشائها سوى ثلاثة أعوام فقط، والصرف الصحي في الريف ينفذ بطرق خاطئة، منها ما لا يتناسب مع منسوب انحدار الأرض، ومنها ما ينفذ في الأراضي الزراعية التي تتعرض للتلف بسرعة نتيجة الري وتملح الأرض. هذا فضلاً عن التأخر في تنفيذ وصيانة الطرقات.

أما قطاع التعليم فإن وضعه يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فالشواغر في السلك التدريسي كثيرة بسبب ندرة مسابقات التعيين، رغم وجود الكثير من خريجي المعاهد دون عمل. وتزداد أعداد الطلاب المتسربين من المدارس، وينخفض مستوى التعليم بسبب ضعف الكادر التدريسي، ويجري التلاعب حتى في تعيين الوكلاء.

والواقع التمويني يزداد سوءاً نتيجةً للغلاء المتصاعد، ويتساءل بعض المواطنين: لماذا لا تفتتح صالات ومنافذ لبيع المواد الغذائية، ولتلبية الحاجات التموينية للمواطنين الفقراء، أم أن الصالات الفخمة للأغنياء هي الأولى؟؟ أما عن الخبز وهو الغذاء الرئيسي للسكان، فهو ذو نوعية سيئة، ومنافذ بيعه غير كافية، وتباع الربطة منه على باب الفرن بعشرين ليرة؟؟

هذا غيضٌ من فيض معاناة أهالي البوكمال من العدوان الخارجي، والإهمال والفساد الداخلي، وهم إذ يقفون على خط الفقر والنار يطالبون بتشكيل لجنة من أعلى المستويات لوضع حلول لما يعانونه من مشاكل مزمنة، ويؤكدون على أن عيونهم ستظل ساهرة على حدود الوطن رغم الفقر والمعاناة... والإهمال الحكومي.