الرفيق هشام الباكير (أبو سعيد).. وداعاً

... هكذا، دون مقدمات، حضر الموت مجدداً، وأرخى بظلاله القاتمة على أرواحنا الشاخصة إلى النور.. لم يكن ضيفاً عابراً يقيم قليلاً ويمضي سريعاً.. كان كلكلاً ثقيلاً حتى بعد أن انتقى قربانه الأغلى ورحل..

كنا على حين أمل عريض.. نرتب مواعيدنا مع الخطوة التالية، نعاهد دربنا أننا سائرون ومستمرون، نعد لأعدائنا ما استطعنا من البأس والقوة واللحظة الحاسمة.. وكان هشام معنا، إلى جانبنا، أمامنا، على أهبة الاندفاع والحماس والوضوح والرسوخ، وجهه وضاح وثغره باسم، ربما لم يشعر بتسلل الموت بين الصفوف، وربما شعر.. كان في الأسبوع الأخير متألقاً يانعاً، وكنا - نحن الذين على صلة معه معظم الوقت- نستشعر شيئاً يبعث على الانقباض، لم نستطع ترجمة هذا التوجس، ولم نستطع أن نحذر أنفسنا من دخيل غريب، والأهم لم نكن نتصور أن الراحل المُغادر الجديد سيكون هشاماً..

حين صعقنا النبأ عند منتصف الليل، أدركنا أننا لم نكن نبالغ في الخشية، وأن النذر الغامضة التي أثقلت على أرواحنا قبلاً، كانت بحجم الكارثة القادمة..

وداعاً هشام.... يا خسارة تلك العينين المفعمتين بالسنا والطفولة.. يا خسارة ذلك القلب السلسبيل الحميم.. يا لخسارتنا القاسية.. ولكن عهداً منا أن نستمر.. أن نتشبث بالأمل.. أن نبقى على قيد الفرح والتطلع إلى مستقبل أجمل.

التشييع

جرى تشييع الراحل الكبير من مشفى دوما بدمشق إلى مسقط رأسه في القريتين صباح الجمعة 11/5/2007 وسط مشاعر من الذهول والحزن العارم وعدم التصديق، وفي القريتين جرت الصلاة عليه في الجامع الشرقي، ومن ثم سار موكبه إلى مقبرة البلدة حيث جرى دفنه.

حضر التشييع الآلاف من أهل القريتين، ومن رفاقه وأصدقائه الذين تقاطروا من شتى المحافظات السورية، وكان بينهم ممثلون عن اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين من شتى أرجاء الوطن...

وقد ألقى الرفيق حمزة منذر (أبو معتصم) كلمة مؤثرة باسم رفاق الفقيد وأصدقائه، وباسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، قال فيها:

ـ يا أبناء مدينة القريتين الثكلى بأحد أنبل وأشجع شبابها هشام باكير!

ـ أيها المعزون، ويا رفاق الفقيد.. السلام عليكم جميعاً..

موت مفاجئ، موت قاسٍ.. وليس بمقدور أحد في حضرة الموت أن يفديك أيها الرفيق الغالي، أيها الصحفي الشيوعي الشجاع، والمثقف الباسل والمدافع عن المظلومين وقضاياهم بشجاعة وإخلاص دون خوف أو وجل، وهذه صفات الرجال الرجال، وصفات المناضلين الحقيقيين والمفعمين بحب أوطانهم والناس الفقراء، أصحاب الكرامة وعزة النفس، وهم الأكثرية الساحقة في هذا الوطن.

لن أقول كما البعض: ليتني لم أتعرف عليك يا هشام، بل ليتني تعرفت عليك وعلى أمثالك الشجعان منذ وقت بعيد، فأنت من الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا وفوا، وإذا استُنصروا نصروا ولبوا النداء.. فأنت من تنطبق عليه صفات المناضل الذي يعدي الآخرين من حوله بالشيم النبيلة والأخلاق الرفيعة، حيث كنت دائماً بارد الرأس، دافئ القلب، نظيف اليد..

 لقد كنت يا هشام متخصصاً في التراث العربي والإسلامي، فأغنيت صحيفة قاسيون ومعارف قرائها وعددهم بالآلاف، بالمعلومة الصادقة والرأي السديد، بزاويتك الأسبوعية التي حملت عنوان «من التراث»، وبقلمك الملتزم بشعار: «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار»، وقدمت آراءك الشجاعة والتقدمية النابضة بالوطنية والمفعمة بالإنسانية ومقاومة الاحتلال. وليعلم الجميع ـ وهنا أقدم شهادة والشهادة أمانة ـ إن دمشق ومثقفي دمشق عرفوا هشام من أوائل الذين نظموا وقادوا المظاهرات في شوارع العاصمة ضد الغزو الأمريكي ـ الصهيوني للعراق، والغزو الصهيوني للبنان، ودفاعاً عن شعب فلسطين، ومن أجل تحرير الجولان بالمقاومة الشعبية، وضد التهديدات الأمريكية ـ الصهيونية المتصاعدة لسورية.

وشهادة أخرى في هشام تعبر عن وفائه لمسقط رأسه مدينة القريتين يجب أن نشير لها، لقد كان الراحل الغالي شديد الافتخار والاعتزاز بمدينته وبناسها ورجالها الشجعان وعاداتها وتقاليدها الاجتماعية. والحقيقة أنه مثلما كان هشام من أهل الوفاء، هكذا كانت مدينته وستبقى، حيث أعطته أصواتها في الانتخابات لمجلس الشعب، ولا أحد منكم يا أبناء القريتين يجهل أن هشام ليس من تماسيح المال أو من محدثي النعمة والنهابين مشتري الأصوات، بل أعطيتم أصواتكم له لأنه من عامة الشعب، صادق فيما يعلن، ومخلص لمبادئه التي تعلّم أحرفها الأولى هنا في هذه المدينة، بين ناسه وأهله وجيرانه ومعارفه وأقرانه.. أولئك الذين بقي هشام يفاخر بهم حتى آخر يوم من عمره... وقد انطبق عليه المثل الشعبي: «من راد النجا من غير ربعه ما نجا».

بسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، والتي كان الرفيق هشام أحد قادتها، نتقدم إليكم بالتعزية، ونقبل العزاء معكم، والعزاء الأكبر، هو ما تركه لنا الفقيد من مثل ومواقف نبيلة لا ننساها ما حيينا، ونرجو الله ألا يفجعكم بعزيز.