الغاب.. الفوضى التخطيطية عدو الفقراء!
من المرتكزات الأساسية لنجاح أية منشأة إنتاجية اختيار المكان من حيث القرب من موارد الإنتاج، فهل يؤخذ هذا المقوم الأساسي عند التخطيط لإقامة مثل هذه المنشآت بعين الاعتبار في بلدنا النامي، أم أن ما يجري يتبع لأهواء المتنفذين والثقل السياسي الوهمي في بنية المجتمع؟؟
ففي هذه المدينة أو تلك البلدة، يتم إنشاء معمل يعتمد في إنتاجه على موارد ومواد منطقة أخرى، وهنا يأخذ القائمون على الأمر بالحسبان ذاك الوزن الوهمي للبعض، لتقدم هذه المنشأة كهدية لهم على حساب المصلحة العامة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فسهل الغاب الغني بثرواته الزراعية والحيوانية والفقير بالمسؤولين المتنفذين الواصلين إلى مراكز القرار، يبقى حتى هذه اللحظة دون منشآت صناعية وزراعية حقيقية، ويجري تحويل هذه المنشآت إلى أماكن أخرى حسب ما تفرضه مراكز الثقل المؤثرة على صناعة القرار الاقتصادي.
ومن الأمثلة الفاقعة على ما تقدم المثال التالي: من المعروف أن منطقة الغاب تعد الأهم في إنتاج الشوندر، ومعامل الشوندر السكري في سورية اثنان، الأول في منطقة جسر الشغور التابعة لمحافظة إدلب، والثاني يبعد عن أقصى جنوب الغاب 12 كم. فالسؤال هنا لماذا لم تبنَ هذه المعامل في وسط منطقة الغاب؟ ألم يأخذ المخططون في الحسبان عند التخطيط أجور النقل والحوادث المؤسفة للجرارات عند قطعها عشرات الكيلو مترات وصولا إلى هذه المعامل؟؟ والشيء ذاته ينطبق على محالج القطن البعيدة أكثر من 100 كم عن مركز سهل الغاب، والحرائق التي تطال الأقطان المنقولة إلى هذه المحالج كثيرة ودائمة الحدوث، فلا يمر موسم إنتاج دون حصول حوادث عديدة من هذا النوع.
أما بالنسبة للبقوليات وأهمها البازلاء التي تتركز زراعتها في سهل الغاب ومحيطه، فمعاملها تبعد مئات الكيلو مترات ( دمشق –إدلب – الميادين ) بعد أن تم تصفية معمل درعا، ومعمل جبلة بحجة أنها خاسرة لا مخسرة.
وطالما فتحنا باب البقوليات، فإنه من الضروري التأكيد على أن زراعة البازلاء في سهل الغاب غير مجدية اقتصادياً، وذلك لصعوبة تسويقها، فعلى مدار موسمين متتاليين لحقت بالمزارعين أضرار فادحة جراء عدم تمكنهم من تسويق إنتاجهم، والسبب هو فقط لأنهم فقراء لا سند لهم، فإذا علمنا أن كلفة الإنتاج للدونم الواحد مضافا إليها ثمن العبوات الفارغة وأجور النقل والتسويق بشكل وسطي 3500 ل.س. وإن إنتاج الدونم 800 كغ وبسعر وسطي 4 ل.س للكيلو الغرام الواحد، يتبين لنا مدى الحيف الذي يطال الفلاحين، وبذلك نعرف معنى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يطبلون ويزمرون له ومنعكساته على شريحة هامة من شرائح المجتمع الكادحة.
فلو قامت الشركة الحديثة للكونسروة والصناعات الزراعية باستجرار مادة البازلاء وتعليبها ليصار إلى تصديرها ولو بسعر الكلفة، لقلنا إن لها هدفا اجتماعيا ولكانت أنقذت آلاف العائلات الفقيرة من جوع محقق، حتى لو لم يتم ذلك إلا عبر وسطاء لبعد هذه المعامل عن مناطق الإنتاج.
السؤال: لماذا يزرع الفلاح البقوليات إذا كانت عديمة الجدوى الاقتصادية؟ نستطيع القول بكل دراية إن معظم الفلاحين يعتبرون هذه الزراعة موسماً مرمماً للقروح التي خلفها الشتاء في أجسادهم (حط عالنار) وبعض الليرات التي تساعدهم للوصول إلى بداية موسم القمح الذي بيع القسم الأكبر منه سلفا للتجار والمرابين، فقد هلل الفلاحون لتساقط المطر، وكل أملهم أن يوفروا تعب ومصروف سقاية أراضيهم إلا أن الآمال خابت لكثرة الهطول المطري والعواصف والسيول، فأحالت مزروعاتهم هباء منثورا: من حنطة نامت على وجه الأرض بعد طول شموخ، وبقوليات تعفنت، ليصمت الكون بعد ضجيج إلا ذاك الذي يغلى في مراجل القلوب، ولسان حال أصحابها يقول: كل شيء على الفقير..
فيا أيتها القوى العاتية، جاهلة وعاقلة، احذري هذا الغليان.
■ يامن طوبر