مؤتمر في دمشق القديمة
●.. أكثر ما لفت نظري في مؤتمر العلمانية الذي انعقد في المركز الثقافي الدانمركي «بيت العقاد» في دمشق القديمة مؤخراً.. أمران.. أراهما يتسابقان في الأهمية:
الأول: انفتاح المحسوبين على التيار الديني على العلمانيين وأفكارهم وانحسار منطق التكفير «والتلحيد والتجريم» إلى رحابة الحوار والقبول والتفهم والتَّوادد.. وكان لافتاً ما طرحه ابراهيم الموسوي وهو عضو فاعل في حزب الله.. وما طرحه الدكتور محمد حبش بما يحمله من فكر تجديدي تنويوي، والعرض المنبسط الذي أدلى به الشيخ الجليل جودت سعيد... بينما كان نافراً ما سمعناه من بعض المغرقين في «العلمانية» من تطرف ورفض للآخر.. حتى كدنا نقول: وهنالك أصولية علمانية أيضاً.
الثاني: وأنت تتفرس في الوجوه... وتنقل بصرك في الكهول الذي حضروا «هذا المحفل» ... تمر أمامك الصور في شريط سريع.. لكنه «لله» مؤلم.. بل شديد الإيلام.. ويخطر لك أن تغمض عينيك... لنتذكرهم جميعاً «تقريباً» في صالة الكندي والفيلم «الحرية كلمة حلوة.. أو مطر فوق سانتياغو»... فإذا بهم هم.. هم.. ذاتهم وبالكاد ازدادوا.. لا بل نقصوا..
فثمة من رحل.. وثمة من استشهد.. وثمة من غاب.. وهنالك من فاجأته أمراض الشيخوخة باكراً.. فلزم بيته... وهنالك أيضاً من لزم معتزله.. وتنهد تنهيدة طويلة وهو يردد حزيناً يائساً: لا فائدة..
«.. ولولا وجود أبي حسن وبعض لحى سوداء لنعينا شباب العلمانية»... الفرق الوحيد هي صورهم بين أن تكون مغمض العينين وتستعيدهم: «شباب لهم قامات السُّعف مشدودو الصدور... بوجوه نضرة.. وشعر فاحم.. أو أشقر كالسنابل.. أو خرنوبي فاتح.. وقلوب كالعسل المصفى.. يتخلل الحشد زهرات أجمل من النسرين.. وأندى من الحبق.. جل ما يحزنني أننا لم نحتفظ بأشعارنا السرية والعلنية «بهن» وما كان بنا منهنَّ وبما يدور في أرواحنا «حولهن» وتندّ منك آهة.. فتلك صاحبة أجمل شعر فاحم على وجه الأرض «سمرة تزلزل جبل» وصاحبة الوجه الطفولي الذي يزري بقمر نيسان وقلب شجاع على نبل ترتفع فوق جبينه غُرَّة كنت ذات يوم مستعداً للقيام بعملية استشهادية للمسها أو معانقتها «وبعدها على الدنيا السلام» والحارق أنه لا بدّ أن تفتح عينيك... وبهدوء شديد «والمشهد» أنت مطرق إلى الأرض ولا تسمع شيئاً.. إلا رنين ذاكرتك... في أحاديثهم القديمة... في عشقهم... خلافاتهم.. وصراعاتهم.... وضراوة تجاربهم.. وبسالتهم.. ثم ترفع رأسك بهدوء فإذا بهم توحدوا.. بشعر أشيب «جماعي» حنون نقي كضوء القمر... فيغمرك مزيج من الأسى والسرور المبهم... ألأنهم خرجوا أحياء.. أم أنهم ما يزالون على صلابتهم... وهنا لا يعنيك خلافك أو اتفاقك معهم... «رغم القضايا التي أفسدتها الخلافات وماتزال»... يتراجع كل ذاك وينسحب... وتعرف أنك تحبهم.. فهم ذاتهم الذين لونوا الدنيا بذلك الضجيج المورق.. إنهم ذاتهم... قبل ثلاثين عاماً يحضرون برؤوس مرفوعة «أو مغموعة» وصدور عارمة.. وبشر طافح بالحياة والأحلام «وشعر فاحم أسود متهدل كقطع ماعز على كتفين مذهلين»
«وغرّة شقراء تصك أقوى رجلين في العالم».. إنهم ذاتهم.. بشعور بيضاء ولحى رمادية..«من مطر فوق سانتياغو» إلى بيت العقاد.. وليس لي في هذه العجالة إلا أن أشكر «لؤي حسين» على جمعهم المدجج بالعاطفة في هذا «الحفل»..
● .. أما تلك الغرّة... فإنها ما تزال تستحق «ألف حزن في ضوء القمر»... ولا أستطيع رغم ذلك أن أبلع هذا السؤال:
«إذا اقترب المتدينون بما يرونه أقسط للدنيا فلم تستعبدون... أيها العلمانيون.. هذه دنيانا ولا نملك تبديلاً..»