إلى أين وصلنا؟ طالب يرشي مراقباً في قاعة الامتحان!

لا نكتشف جديدا عند الحديث عن الفساد، بل ربما أصبح الكلام عن هذه الظاهرة – الآفة – مملا، وقد باتت تنتشر عموديا وأفقيا، وتفتك بكل شيء جميل، ولها ثقافة وجملة مصطلحات ومقولات تعبر عنها، ولكن يحدث أن يمر معك حدث ما، لتستفزّ من جديد وتضاف جرعة جديدة إلى جرعات الرعب الذي نحس به أمام تفشي هذا السرطان انطلاقا من شعورنا بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية.

مختصر الحكاية أن كاتب هذه السطور ابتلي هذا العام بمراقبة امتحانات الشهادة الثانوية، ومثل هذه الورطة تقودك حكما إلى أن تدخل مستنقع المجاملات الكاذبة، مع ذوي الطلبة الذين يلحون عليك بضرورة مساعدة ابن أو قريب لهم، وهذا السلوك المستهجن أصبح على ما يبدو من الأمور العادية أمام هول ما رأينا.. وهو انه إثناء ممارسة الواجب المهني والأخلاقي، بمنع الطالب من الغش تفاجئ بشاب في مقتبل العمر يقدم لك رشوة واضحة وهي عبارة عن مبلغ من المال لتسمح له بالغش، وذلك أمام مرأى ومسمع الطلبة والمراقبين.. أمام هذا المشهد ماذا يمكن للمرء أن يفعل أو يقول؟... بصراحة أقول لم تسعفني عشرون عاما من العمل في القطاع الشبابي، ولا خمسة عشر عاما من الخبرة في التدريس، ولا الشيب الذي بدأ يظهر على شعري بممارسة التصرف السليم واللائق، ولم أجد نفسي إلا وأنا أنسحب من القاعة أمام هذا الموقف الذي يكشف عن مستوى الانحدار القيمي والأخلاقي، والدرك الذي وصلنا إليه، نحن هنا لا نعني الشاب بحد ذاته، بل مجموعة القيم والأخلاقيات السائدة التي يعتبر هذا الشاب ومثله الكثير الذين يجدون في الغش حقا طبيعيا لهم، ضحية لها، وأية ممانعة لذلك تذكرهم بسلوك الموظف الذي يعرقل المعاملات طلبا للرشوة. الرشوة أصبحت ظاهرة عامة، ولكن وصول الرشوة إلى قاعة الامتحان، والعزائم التي تقام لرؤساء المراكز وأمناء السر والمراقبين هنا وهناك، كما أكد لي الكثيرون من العارفين بالأمور، ومن شباب لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاما، بات أمراً يستحق برأيي أن نقرع أكثر من جرس إنذار، ويتطلب الوقوف على أسبابه ودراسته.

إننا نعتقد أن فرمانات الوزارة بردع الغش الامتحاني، والتهديد والوعيد الذي يوجه إلى الطلبة، ومظاهر تفتيش الطلاب وهم يدخلون قاعات الامتحان التي تذكّر بأسرى الحروب.. إن كل تلك الإجراءات، لا تغير في الموقف شيئا، بل ينبغي معرفة الأسباب العميقة الكامنة وراء الفكرة التي يؤمن بها الكثير من الطلاب، وهي أن الغش حق شرعي لهم، والممانع لذلك معقد، مثالي ، حسود ، وما يخاف من الله!

في علم الاجتماع الماركسي ثمة فكرة تقول إن الطبقة السائدة تطبع المجتمع بطابعها، والطبقة (اللصقراطية) السائدة عندنا، التي عممت بنيتها الأخلاقية في أوصال المجتمع، هذه البنية التي هي انعكاس لطريقتها في الاستحواذ على الثروة، إن هذه الطبقة على ما يبدو، لم تشفط ثروات البلاد فحسب، بل أطاحت بالبنية الأخلاقية الفطرية لدى الإنسان، واستعاضت عنها بأخلاقيات نمط المجتمع الاستهلاكي ، التي تقوم على النزعة الفردية ، وفرض نمط وعيها قائم على السلوك اليومي للمواطن القائم على الحل الفردي مهما كانت وسيلته وشكله وطريقته، حتى لو أدى إلى دوس القيم والأعراف والتقاليد والقانون. إن وجود مثل هذه الظواهر المرضية، وبهذا المستوى بين الجيل الشاب، يكشف لنا حقيقة مفادها أن أخلاقيات هذه الطبقة ليست (بلوة) في الظرف الراهن فحسب، بل إنها تصدر الكوارث الاقتصادية والاجتماعية إلى الأجيال اللاحقة أيضا.

لقد آن الأوان لإعادة النظر بطريقة إجراء الامتحانات المتبعة عندنا والتي تذكر بالأساليب التربوية في القرون الوسطى، وذلك في إطار معالجة شاملة لواقع العملية التربوية والتعليمية، يتم من خلالها تجاوز العديد من الأمراض المستعصية التي تفتك بهذا القطاع، الذي يعتبر نجاحه أو فشله أحد مؤشرات جدية أصحاب القرار في الحرص على مصالح البلاد والعباد، كجزء من إصلاح شامل سياسي واقتصادي واجتماعي، يعيد الاعتبار إلى إنسانية الإنسان، ويحقق الذات الإنسانية الواعية التي ترى في نفسها جزءاً من كل، خلاصها بخلاص هذا الكل، وفنائها بفنائه.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأحد, 20 تشرين2/نوفمبر 2016 21:49