مطبّات طوابير متناسلة

كأنه قدر أحمق، من طابور إلى آخر، الوقوف المتتالي للبشر في رتل واحد طويل، أو في أرتال متنوعة، رجال ونساء، وأصناف لها الأولوية.

قدر يشبه أي شيء سوى القدر، إنها الرحلة المستمرة من الوعي الأول للإنسان، طابور من المنتظرين البلهاء لمولود سيدخل الطابور من لحظة صراخه الأولى، وصولاً إلى طابور المشيعين الحزانى حيث سيزرع في الأرض وينسف من الذاكرة.

بين الرحلتين طوابير تتناسل، ها هنا على هذه الأرض التي تسمى أرضنا، نعيش أكثر من بقية البشر في عالم طويل من الازدحام وراء بعضنا، نتحاسس، نتدافع، نتلامس، نتدافش، إلى أن نذهب إلى النهاية محشورين في طابور.

في المدرسة حيث الدرس الأول من النظام التربوي، استرح.. استعد، عيونك في (نقرة) رفيقك، ثم رتل طويل، طابور من الصغار الداخلين إلى الصف لتلقي دروس التاريخ عن العرب الذاهبين في طابور إلى الجنة، العرب المنهزمين في معاركهم مع بعضهم كراً وفراً، ومعاركهم مع الآخرين في آخر هزيمة لم تقم لهم قائمة بعدها في الأندلس حيث الصيحة: (ابك ملكاً ضائعاً)..

ثم درس الجغرافيا عن الانتزاع البطيء قطعة وراء قطعة، في طابور انتزاع هادئ، حتى وصولنا إلى هذا العالم العربي المصطف على هيئة طابور من الدويلات الهشة والضعيفة.

بعد المدرسة دور التسجيل الطويل على القبول الجامعي، صف يخترقه مدعوم ثم يمضي سريعاً، وعلى طرف شفتيه ابتسامة متعجرفة.

بعد الجامعة طابور من الذاهبين للطابور المشرف، صدرك منفوخ وجبهتك عالية، طابور من الذاهبين إلى الغداء الجماعي، صه.. باشر طعامك.

في الطريق إلى الوظيفة، على الموقف الرسمي، طوابير هارعة للصعود في حافلة النقل العام، طوابير متدافعة يسقط من يسقط، ويصل من كان به قوة، الضعفاء بالطبع ستحذفهم الحياة.

في الشتاء القارس، من لسعة البرد التي ترتجف لها أوصال الصغار المحشورين تحت أغطية خفيفة، يخرج الأب بدافع غريزي للحفاظ على الأرواح التي ورّطها في معركته مع الحياة، يقف مذعوراً مرتجفاً في طابور طويل من المذعورين، ليمل الكالون الخرافي بالسائل الذي يبعث الدفء في الروح.

يخرج المسكين من الشتاء، ليدخل في صيف حار، طابور من العطشى يتسولون دور الماء كل أسبوع، سوف يشرب الصغار، ويقدم كأس عصير بارد إلى الضيف، وكأس شاي ساخن في الصباح قبل أن تغادر العائلة المذعورة وكرها.

 طابور في طابور هو القدر الذي اختص بنا، لا مفر من الانتظار، الوقوف الطويل، التدافع المجاني، التقاتل، على علبة محارم في الثمانينات، وعلبة سمن، على إبرة مصنوعة في الصين، ذابت أنوفنا المزكومة من اعتصارها بالقماش، حليب البودرة للأطفال صار حلماً، أما الموز الذي مللناه أخيراً، فكان فاكهة لا تتحقق.

في السنوات الأخيرة، عدنا دون أن نشعر إلى هذه الذكريات، ليس في جلسة تذكره، أو والد يسرد لأبنائه أياماً شديدة القسوة مرت عليه ويبالغ بها.

تذكرناه الطابور واقفين في الطابور، عشناه في طابور.. في طابور طويل وقفنا على محطات الوقود ننتظر، ساعات تمتد حتى الفجر، وقلنا أزمة تعودناها، مفتعلة كانت أم حقيقة، صدقنا كما عادتنا نحن الطيبين الوعد بحل سريع، كان زيادة في الأسعار، وسحب الثدي بعنف من أفواهنا.

لم نصدق أمراً واحداً، قبل ليلة من القرار برفع أسعار الوقود،كان كل شيء يمر عادياً، في الثانية ليلاً يمكن أن تذهب إلى الفرن الآلي وتشتري ربطة خبز بـ 15 ليرة، ثم ننام. في ذلك اليوم، العاشرة مساء لا خبز، المئات من أمثالنا واقفون دون حراك، مصدومون، واجمين كمن يشاهدون حمم بركان قادمة لحرقهم، أو قطاراً بسرعة جنونية وصل لقتلهم دون مقاومة وموعد.

في الصباح تجلى الموقف، طابور طويل على الفرن الآلي، العادي، فرن الخبز السكري، خبز المترفين أعلن ارتفاعاً فاجأ حتى المتخمين.

ازدحمت أفران الفقراء، اصطفوا ليس في الذكرى، بل في طابور طويل.. في انتظار موعد مع طابور طويل جديد.