من ساهم في ازدهارها: المهن الهامشية عندما تصبح خيارا للحياة

بويا..بويا

الوجوه تكاد تشبه الأيادي، في البرامكة وبعد أن رحلت السرافيس التي كانت ذات يوم تقل الزبائن، واستقرت في السومرية وغيرها، ينتظر (ماجد) ابن السابعة عشرة خلف صندوق البويا. ربما بعد أن يفتح عينيه تعود الأيام والعمل كشهرين مضيا، فالزبائن قلوا، وشرطة المحافظة ما زالت تطاردهم خصوصاً بعد إعلان دمشق عاصمة للثقافة العربية، وصاروا من وجهة نظر المنظمين أحد المناظر المؤذية للعين والتي تشوه المدينة، وكأنهم فقط السبب في ازدحامها، وفوضاها، وقلة تدبير القائمين عليها.
في ظل وكالة (سانا) يصيح بهمس مخنوق: (بويا..تفضل يا أستاذ)، سألته عن دخله اليومي فضحك باستهزاء، وقال: سندويش ودخان.
يروي ماجد حكايته: «توفي والدي، وترك خلفه بس ستة أولاد وأمهم، وشاء قدري أن أكون أكبرهم، في قريتي من ليس له أرض أو وظيفة ليس هناك ما يأكله، من هنا كان لا بد من البحث عن عمل خارجها، وأبناء خالي نصحوني أن آتي معهم إلى دمشق حيث يوجد عمل وتستطيع أن ترسل لأهلك قليلا من المال، فأنا من ريف حلب، مرت الأيام الأولى في دمشق واكتشفت الكذبة التي جئت من أجلها للعاصمة، ربما تستطيع بكثير من الجهد أن تجد مكاناً تنام فيه، وأين؟ ربما في عش الورور أو مزة 86، بالكاد ستدفع مقابل ذلك كل ما تجني».
ماجد ليس وحيداً، كل رفاقه (البويجية) تحدثوا عن  المعاناة نفسها، وأعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، الشارع باب الرزق، والنوم جماعي كزنزانة.
 
رزق الحاويات

ما أكثرها، الحاويات، وليس الرزق، يأتي (أبو مصباح) بكيسه (الجنفيص) ومدرعاً على عجل بكثير من السراويل والقمصان، وهذا اللباس فقط لموسمي الشتاء والصيف. يضع أبو مصباح يده في سلة المهملات التي بجوارك إن كنت في مطعم، أو في حديقة، أو ينتظر حتى ترمي من يدك علبة البيبسي أو الكولا، ثم يذهب بخطى متهالكة إلى الرحلة الأخيرة التي تحتاج لكثير من الجهد: (الحاوية)، حيث الكثير من القمامة، والأكياس والمعادن والطعام، هنا لا يستخدم يده.. بخرقة يمسك بالعصا ويصطاد بضاعته كقط محترف.
أبو مصباح ليس وحيداً في دمشق، عند الصباح يخرج الكثيرون ممن هم أرشق وأكثر خبرة منه، إلى الأمكنة نفسها (الحاويات) مهما كان مكانها، إلى المطاعم، حتى يصادفك رجل منهم في حديقة المتحف، يمد يده ويقول: «العمى... ولا واحدة (كولا)»!!.
الرجل الجالس على المعقد المجاور علق: «هؤلاء ليسوا فقراء، إن يومية الواحد منهم تتجاوز 500 ليرة، وهذه لا يحصل عليها مدير عام هذه الأيام.
يعتقد البعض أن هؤلاء الناس إما لهم وظائف أخرى، أو أن هذا العمل (القذر) يدر ربحاً هائلاً عليهم، أما الأطفال الذين يعملون في المهنة فهم مأجورون لكبير يشغلهم، وإن كان ما يعتقدونه صحيحاً، من هو الإنسان الذي يرضى أن يكون عامل قمامة إذا لم يكن محتاجاً، والأطفال لو كان لهم أهل قادرون على إعالتهم أين سيكونون؟ أليست مدارسهم أولى بهم؟
الأطفال خصوصاً، وأغلب العاملين في جمع علب الكولا والبلاستيك وما يتوفر من مواد أولية يمكن أن تباع، لا يمكن أن يقبلوا الحديث عن مهنتهم وإلى من يبيعون ما يجمعون، (مراد) ابن التاسعة قال لي جملة واحدة وهرب: «لمعامل البلاستيك والألمنيوم يا ذكي».
 
على أبواب الـ (wc)..

يقعد (أبو أحمد) وزميله (خليل) على ورديتين، في مدخل المراحيض في أحد الكراجات، العمل الذي يعيشان منه هو غسيل المراحيض وجعلها نظيفة دائماً، وعلى الجدار مرآة أكلت الرطوبة بريقها، ومشط وصابونة وعلبة محارم ماركة (ديمة)، يجلس على كرسي من البلاستيك، وطاولة على وجهها قماش كان ذات يوم أبيض، وبعض النقود المعدنية من فئة الخمس ليرات.
من أكثر المهن انتشاراً، ولا تحتاج على رأي (خليل) سوى إلى رجل مكسورة، وقليل من الصبر وكسر النفس، لا يوجد عمل يمكن أن يحتمل رجلاً تجاوز الخمسين من عمره، «الحياة (بدها) صبر».
ولكن المهنة التي لم يكن متعهدو هذه الأماكن يجدون بالكاد من يعمل بها، دخلت حلبة المنافسة، خصوصاً بعد دخول القطاع الخاص بمراحيضه الفخمة و(بورسلانها) الملون ومحارم (الرول)، والصابون الفاخر والأمشاط الملونة الأنيقة، وأجرتها الأعلى (10 ليرات)، وأحياناً في الشعلان تتجاوز الـ 25 ليرة.
الأدهى من ذلك أن أغلب القطاعات العامة باتت تطرح أماكن قضاء الحاجة لديها للاستثمار، لكن الغريب في الأمر أن بعض المساجد أعجبتها الفكرة، وصار على المصلي إذا أراد أن يتوضأ في أحد (مطاهر) هذه المساجد أن يدرك أن الوضوء ليس بالحسنات بل بالمخمسات.
 
حارسو الشرف

ليست وليدة الانفتاح الاقتصادي، أو السوق الحرة بلا ضوابط، فهي عاشت مع البغاء المهنة الأقدم في التاريخ، الجديد فيها أن العاملين في حقلها في ازدياد متواصل يوماً بعد يوم، سواء من الرجال المسهلين لها، أو من النساء المنخرطات في عمل يجلب المال الكثير الذي يجلب السعادة الموعودة. رجال بشوارب أو من دونها، ناعمون أو خشنون، لا يهم ، يتسكعون علانية أمام الفنادق الرخيصة، والملاهي الليلية، والأمر المرعب أن البيوتات (التي تتقن المهنة وتحترم أصولها) باتت شديدة الانتشار.. على قارعة الطريق يهمس (القواد) بأدب: (استراحة يا أستاذ.. استراحة يا باشا)، وهنا تتفاوت أجرة الاستراحة بحسب المكان والبضاعة، تبدأ من المئات وتصل إلى الألوف، فمزرعة على طريق الغوطة مع فتاة روسية شقراء، نحيلة، وخبيرة، حكماً ليس بسعر فتاة محلية (درويشة) تعمل في فندق رخيص بلا أية نجوم!!.
القوادة، باعتبارها من المهن السرية التي لا يمكن أن يفضح صاحبها نفسه، وربما لا تدل عليه سوى ملابسه وشكله وظرافته، ما تزال تحافظ على الكثير من الغموض فيما يتعلق بشبكاتها والعاملين فيها، ولكنها بما تجلبه من مال سريع، يمكن بسهولة تخمين هوية محترفيها، لذلك سرعان ما تسقط عنها السرية المزعومة.
يتندر السوريون بالمواخير القديمة (بحسيتا) في حلب، ويتذكر العجوز (أبو رستم) عندما كان موظفاً في حلب أن بعض بيوت الدعارة كان مرخصاً لها رغم قلتها، ولكن هذه المهنة لها جمال في سريتها، ولم يكن القوادون من فئة معينة بل من كل الفئات في المجتمع.
لا يفوت يوم دون أن تقرأ في صحيفة خبراً عن جريمة قتل بدافع الشرف، أو عن اغتصاب فتاة، أو القبض على عصابة مخدرات ودعارة، بالطبع ما زالت مجتمعاتنا محافظة، وليست المسألة وباء سيصيبنا، لكن القضية في اتساع وهذا هو الخطير في المسألة، ومن أجل إيقاف هذا الجنون الذي ربما يكون ممنهجاً، نحن في واجب أن ننظر في المسببات، وربما يجيب عدد كبير من الناس لو سألناهم عن سبب استحكام هذه الظواهر: شهية البعض لجمع المال، وربما الوراثة في جانب بسيط، ولكن الحقيقة الساطعة التي تفرض نفسها كمسبب رئيس تقول: إن السبب يكمن في الفقر والبطالة، وفي هذا الواقع الاقتصادي – الاجتماعي - الثقافي المتردي، والذي يزداد تدهوره وانحداره مع كل فجر جديد..
يستغرب(و.ح) من المجتمع الذي ينظر إليه بازدراء، ويسأل: لماذا يعتبر هذا المجتمع اللص وسارق المال العام شاطراً، وكذلك المرتشي، والموظف السيئ الذي لا يدفع معاملة مواطن دون رشوة، أليسوا بلا شرف؟
(س.ك): «وجدت نفسي هنا، لا أعرف سواهن، والدي كان يعمل هنا وكان يصطحبني معه، مات وأنا صغير بتشمع الكبد من كثرة المشروب، وهذا هو قدري».
 
خاتمة ليست هامشية

هناك الكثير من المهن التي يصفها  الناس بـ(الوضاعة) وربما يكون بعضها لا يخالف القانون وربما تتفاوت القذارة بين الواحدة والأخرى، لكنها في المحصلة تجتمع من حيث الأسباب التي فرضتها..
وتكبر الأسئلة: من قاد الصغار إلى الحاويات؟ والرجل الخمسيني إلى الوقوف على أبواب المراحيض؟ وابن السابعة عشرة للجلوس خلف صندوق البويا؟
باختصار نقول: إنها الحاجة إلى البقاء، ربما يتسرع البعض، ويخاطر آخرون، ويستسلم المتبقون لأقدار مصنوعة، لكنها في النهاية لعبة الصمود في وجه الجوع.
أمراض وأعمال مررنا عليها سريعاً، لكنها تحتاج إلى نظرة مطولة من قوى وفعاليات المجتمع، (مثقفين، باحثين، قوى وأحزاب ومنظمات)، والأهم أنها تحتاج بالدرجة الأولى معالجة سريعة وجذرية من الحكومة للأزمات الاقتصادية وسوء مستوى المعيشة، لأن وباء الحاجة لا يرحم.