مطبّات اقتصاد (البيك) وعرّابيه
شاءت الأقدار أن أحضر حفل افتتاح صالة راقية في مجمع راق، وأنا الذي اعتدت صحافة التحقيق، الناس، الشوارع.. وفي أبسط الحالات صورة لطفل يضع ميزاناً بين فخذيه.. أما أن أكون بين حضور نظيف الطلة، معطر، وحوله ما تشتهي من جميلات فهو قدر جديد.
فتاة في مدخل الباب، تحمل بين يديها الرخاميتين اسفنجة كبيرة حمراء عليها مقص، وأكاليل من الورد الملون مع تحيات مرسليه وبعض (الحويصة) ذوي الأشكال الجديدة.. بشعر واقف، وبدلات رسمية، وابتسامات بلهاء، ومصافحات باردة، وبجواري صديق مثل حالي، للمرة الأولى يجد نفسه بين أضواء غير محتملة، كانت بالنسبة لي مهمة استثنائية، اضطرارية لغياب الزميل المكلف بتغطية الافتتاح.
تجاوزت الساعة موعد الافتتاح المحدد،لم يتأفف أحد.. كانوا ينتظرون أحداً ما، وبدأت بعد الموعد سيارات سوداء تقل المدعوين، تقف السيارة السوداء، ينزل المرافقون، ثم يهبط رجل نظيف وناعم، يسعى إليه الواقفون بالسلام والترحيب، ثم يجتمع اللامعون لينتظروا شخصاً ما، وبدأت أسمع ما يدور بينهم، كيف الحال وسيم بك، مبروك جمال بك، فاتحة رزق وسيم بك وهكذا؟
أخيراً وصل المنتظر، رجل وسيم وهام، استقبله الجميع، اتجهوا إلى الفتاة حاملة المقص، قصوا الشريط الأحمر... وبدأت عدسات المصورين تصدر بريقها إيذاناً ببدء الاحتفال، ثم دخل المدعوون، يدورون في أروقة الصالة، وبدأت أكواب العصير تدور معهم، وهمس وتأهيل وترحيب، وصور تذكارية، ثم التفوا حول بعضهم الكبار، ثم الأقل، ثم الأقل.. وصولاً إلى الإعلاميين الذين وقفوا جانباً يضحكون، ثم يبتسمون لبعض الرسميين، وأنا وصديقي كأننا في عالم آخر.
بالطبع، لم نحتمل المزيد، لم نشرب العصير، التقطنا صورتين دون يد راجفة، ثم خرجنا سيراً على الأقدام، إلى أقرب سرفيس يقلنا، حيث الناس بأضواء خافتة، عاديون، مثلنا، مواطنون، ينام بعضهم عندما يتحرك (السرفيس) وبعضهم في شرود طويل.
ما أثارني في أقل من نصف ساعة من حضوري الضوئي، تلك اللغة التي كنا اعتقدنا- نحن الذين نشأنا في ظل مفردات الاشتراكية، والمساواة- إن مفردات كهذه ولت دون رجعة (بيك، باشا، أفندي)، وحلّ محلها كلمات تتساوى بنا، رفيق، زميل، سيد، أستاذ، وأن تلك المفردات مرتبطة بعهد ناضلنا كثيراً للتخلص منه، ورميناه في (مزبلة التاريخ)، ولكن من أين جاء كل هؤلاء (الباشاوات، البكوات، الأفندية)، لا يرتدون الطرابيش الحمراء، ولا يحملون عصا (المارشالية)، ولايبدو حولهم الخدم؟
قرصتني الذاكرة ـ نعم ـ كما تحول هؤلاء في ظل السوق المنفرجة، من معلم، إلى باشاوات، لابدّ (حشم) مختلف، نعم، إنهم أولئك المنفرون الذين تستفزك أشكالهم، أصحاب الشعر الواقف، الهابطون من السيارات السوداء قبل أسيادهم، وعرّابوهم أولئك الذين يعملون معنا، في حقل الإعلام، الذي يتقاضون أثمان أخبارهم وافتتاح أعمالهم، وسفرهم، ويغطّون جولاتهم الاقتصادية، ويشربون من عصيرهم، ويأكلون (الكاتو) بنهم، ولهم كروش جديدة.. وبدلات لامعة، مع دخيلات على الإعلام، متبرجات، ليس لهن وجوه متعبة من تتبع قضية، ولا صوت يشبه الصراخ في وجه ظالم، أصواتهن ناعمة، شفاه حمراء.. ويعملن فقط في رصد هؤلاء ورسم صور لا تشبه ماضيهم، بل تشبه حاضراً مسحوباً من ماضٍ كنا اعتقدنا أننا تجاوزناه.
أما نحن، الذين نكتب على طاولات متعبة أكثر منا، وبأقلام شبه فارغة، وبكلمات قاسية مثل فقرنا، سنبقى خارج هذا الضوء، بين وحل (الحسينية)، ومخالفات الـ(86)، والبحث الطويل في صفوف الفقراء عن أمل ما لبقية العمر، عن شارع في دمشق غير مزدحم بنا، أو رصيف يتسع كل العاملين بعد الظهر، بأكتاف محنية، وأرجل مستعدة للفرار أمام شرطة المحافظة.
أما الذين تكرّشوا من بين ظهرانينا، وصار لديهم سيارات أقل قيمة من سيارات أسيادهم (البكوات، الباشاوات)، وصاروا يتحدثون بلغتهم نفسها، عن المال، الاقتصاد المفتوح، النظريات الاقتصادية المتعالية على هموم الناس، سيصبحون ذات يوم أسياداً دون ماض، لكنهم لن يستطيعوا النظر في عيوننا، لأننا وحدنا الذين نعرف من أين جاؤوا؟
إنه اقتصاد (البيك) وعّرابيه.. حين يستطيع البريق الليلي، أن ينسف من ذاكرتنا الوجع.. الفقر، ويصنع رجالاً كنا اعتقدنا أننا تخلصنا منهم منذ زمن، لكنهم يعودون إلينا، بلغة قديمة قاسية، وترحيب إقطاعي، وسلامٌ برجوازي عفن، مع قافلة المهللين دون خجل من ذكرياتهم الأولى.