صور من أقدم عواصم الأرض.. الطريق الطويلة إلى الحياة... قراءة في ملصق لعجوز سوري
تحت جسر الرئيس، ثمة أناس كثيرون بانتظار وصول السرفيس الذي سيقلهم إلى البيت أو إلى العمل المسائي أو إلى النهاية، هذه الأقدار المحتملة لمن ينتظر، لكنها تتلكأ كالعادة.. لا مكان لراكب على الجانب، أو يومئ السائق بيده المتعجرفة أنه لن يصل بك إلى ما تريد، وهذه أيضاً الأقدار المحتملة في وسائط نقلنا.
في كل هذا الانتظار الكافر، تتسلى بعيونك فقط، إما بمتابعة المارين والمارات، أو بسماع مكالمة على الموبايل من أحدهم، أو بالنظر إلى مشروع محافظة دمشق لتزيين قبر بردى برخام جديد.
تحت الجسر هذه المرة ثمة شيء جديد، ملصق بالأبيض والأسود، غير التي اعتدت رؤيتها، ليست إعلاناً عن دورة لتعلم الغيتار عند عازف مشهور، وليست أرقام أستاذ جامعي عن دروسه الخاصة، ولا شقة مفروشة للإيجار.
صورتان متلاصقتان، الأولى تحت عنوان (إلى من يهمه الأمر) موقعة من طبيب مختص، والثانية صورة لرجل عجوز في السبعين من عمره، وبسطرين يروي ما آلت إليه الحياة.
باللغة البسيطة المرتجفة كتب العجوز رسالته إلينا، نحن جميعاً، العابرون والواقفون، الذين بإمكاننا فعل شيء والعاجزون عنه:
(تعالج وضعها بهذه الطريقة، مصاب مرض في ضعف العضلات والأعصاب، وعمري 70 سنة صار لي .... أنام في حدائق دمشق وشوارعها وهذه إحدى المواقع ساعدني فقط براتب 2500 للمعيشة، ولا تريد أن أدفع إيجار شقة.)
وبلغة أيضاً مرتجفة، كتب الطبيب حالة المريض، لا من حاجة ارتجفت يداه، ولكن هي عادة الأطباء في وصفاتهم (شيفرة الحكمة)، وبدأها إلى من يهمه الأمر... وهنا اختلطت الأمور هل نحن، أم من هم فوقنا؟؟
(إلى من يهمه الأمر.. السيد أديب خليل إبراهيم يعاني من مرض عضلي ... في ضعف شديد بعضلات الرقبة أدى لانضغاط .... وقد حدث ضعف بعضلات التنفس لاحقاً. يحتاج للعلاج بالخارج لتوفر إمكانيات أكبر لعلاج هذه الأنواع من الأمراض ... الدكتور قيصر وديع نر.....)
قلق التشابه
في الطريق الحياتية ثمة أشباه في الجوع والغنى، الدماثة والنفور، فالتشابه هنا مصدره الانتحال، الصدق أو عدمه، الحاجة أو ادعاؤها، الكثيرون باتوا يحملون صور أبناء عاجزين، أو مشوهين، أو أرامل مات رجالهن في معركة الحياة أو أمراضها.
هنا ينتابك التردد في تصديق الحجة، وفي الأغلب يسوقك التردد إلى الهروب، لكن صاحبنا لم يسمح لي بذلك، تسمرت إذ لا يوجد متسول، مجرد ملصق عن عجوز بلا عنوان.
*في البرامكة يجلس أطفال شبه عراة، وأحياناً يطاردون المارة يقبلون الأيدي ويحفظون كافة الأدعية، وقد تطاردك لعنة طائشة إذا لم تدفع ثمن الدعاء.
على الإشارات الضوئية وعندما تصير في وضع التوقف، يخرج إليك المتسولون كأشباح شقت الأرض، أو تمد امرأة يدها في وجهك كمن يحضر فيلماً مرعباً على mbc2 في يوم الثلاثاء.
*على جسر الرئيس ثمة طفل يبكي وقد وضع رأسه بين فخذيه وبصوت عال، وأمامه وعاء مقلوب على وجهه وبقايا الأكلة الشعبية (حلاوة السميد) متناثرة في كل مكان، العابرون وكلهم من البشر يتعاطفون ببساطة وتنهال الليرات وبعضهم يدفع ثمن كل الوعاء في مقابل دمعة طفل، المفاجأة التي سوف تنتظرك سيدي أم المشهد ذاته والطفل ذاته ستشاهده في شارع الثورة وعلى جسر المشاة.
كل هذه التشابهات سوف تقودك إلى الاعتقاد أن ثمة قلق مررت به يعود إليك، لكن هذه المرة لا تشبهه.
نصابو المناسبات.. والمغفلون
البعض تغلب على الحاجة وقلة الحيلة وربما تدفعه رغبة الاستسهال في جمع المال، بالنصب والاحتيال.
*من الثلاث ورقات والبحث عن (الآس)، في الشوارع المخفية وباتفاق أكثر من شخص على استلاب الباحثين عن المغامرة والإثارة والمغفلين.. إلى المخترعين الجدد لسوائل تبييض الليرات المعدنية، وطباعتها على ظهر ورقة بيضاء.
على مقربة من النفق الساكن قرب وكالة سانا، الرجل الذي يعرفه أغلب سكان دمشق، بشعره الأبيض الملتف، وأحياناً ببذلة الجينز أو الجلابية المتغضنة، والساعة الذهبية عيار24 قيراط في يده اليسرى وقداحة الغاز في يده اليمنى والمسرحية التي يؤديها عن المواصفات الهائلة لساعته، سعرها في أرضها(سويسرا) حوالي 34 ألف ليرة، وضد الماء والحريق والكسر، وميناء ذهبي، وعقرب ثواني من الذهب الأحمر، وإطار من الذهب الأبيض، ثم يبدأ المزاد بمئة ليرة وينتهي خلال دقيقة بـ 175 ليرة.
*سيارة مملوءة بالهدايا، مسجلات وعلب البسكويت، الموبايلات، وكاسات الشاي، ويصيح المنادي الله لا يسامح أولاد الحرام، أما كيف ستكسب؟ المسألة بسيطة، تشتري بـ100 ليرة علبة بسكويت، وعندما تفتحها سيكون في انتظارك الهدية التي تحلم بها(دزينة كاسات شاي) ماليزية.
*آخران قادمان من مدينة شمالية، يشتريان ويبيعان لبعضهما، ويحميان بالوقت نفسه بعضهما، الكاميرا الديجيتال بـ 250 ليرة وعلى المزاد، يشتري المتآمرون ثم يحل الحظ العاثر بالمغفلين.
* البسطات المتناثرة في كل شوارع دمشق حيث تشعر أنك تعيش قي مدينة بلا أرصفة، الشامبو ماركة (؟) عبوة سعودية كبيرة بـ50 ليرة، أما زجاجات العطر الفرنسي الفاخر أيضاً بخمسين ليرة، وبنطال الجينز الإيطالي بـ150 ليرة.
أما كيف؟ فذات مرة قبضت السلطات معملاً لتصنيع الشامبو في المخيم، عبارة عن غسالة عادية (يظن بعضكم أنها أوتوماتيك)، وبعض المنظفات والصابون، يضاف عليها بعض النكهات والعطور.
بالطبع رجلنا ليس واحداً من كل هؤلاء؟؟
طمأنينة العمل
الوجه الآخر لكل من ذكرناهم، رجال في أرذل العمر، يبيعون ما يقدرون عليه من أجل رزق قليل، ويد لا تمتد لحاجة.
*في الشارع الدمشقي الشهير (الصالحية)، مشاهد عدة عن التنوع في العرض والطلب، فالمتسوقون كل الشارع السوري، أحدها صاحب صوت رخيم، عندما تسمعه ثمة من يسحب عنقك إلى الوراء، ضرير بعد أبواب الستين من العمر، يحمل صندوقاً خشبياً معلقاً بعنقه بقماش أزرق نظيف.
تقترب لتعرف ما الذي يبيعه الأعمى (سبحات) ملونة ويستمر غناؤه الجميل في الصالحية.
*في المزة وعلى الرصيف المقابل لسوبر ماركت العائلة رجل ضئيل بلا يدين، يضع أمامه صندوقاً خشبياً صغيراً، فيه مجموعة منوعة من علب الدخان الأجنبي، وبعض العلكة الوطنية، كل مدخني المنطقة يقطعون المسافات ويتجاوزون المحلات القريبة ليشتروا من هذا الضئيل، السبب ليس الشفقة... بل الاحترام.
* في السبعينات ربما كان عمري حوالي الخامسة، كان الفرنك السوري يساوي الكثير قيمة ولذة، نذهب إلى (أبو فارس) الضرير بسطله الكبير، في الصيف يبيع الذرة(العرانيس)، وفي الشتاء يبيع (الشوندر)، له أبناء صغار وبكامل عماه، كان يدفع الصدقة.
* في كلية الآداب ظاهرة أعتقد أنها ما زالت موجودة، شاب في الأربعين ومصاب بالشلل، يحمل الجرائد السورية على كتفيه وينادي (سيريا تايمز)، وراح هذا النداء لقباً له، بالمرح استطاع أن يعيش ويتفوق على عاهته، كل الذين تخرجوا من الثمانينات يعرفونه، قلائل هم الذين باح لهم بأوجاعه.
الواقع المر
في الحالتين خلل مؤكد، الذين يحتالون على الناس، والذين يحتالون على الحياة، القاسم المشترك فيما بينهم هو الحاجة، والخلاف بينهم في الوسيلة، ثمة وسيلة شريفة، وأخرى بائسة ومنحطة.
السنوات الخيرة كرست في جنونها أشياء لم يكن السوريون يحلمون بها، في الأفلام المصرية،(زيطة) الذي يقتطع الأعضاء ويخلق العاهات كان مجرد أسطورة لا تصدق، والفقراء الذين ينامون على الرصيف في بومباي، والسكارى الذين يموتون برداً في موسكو، والعراة الذين يأكلون البشر في أفريقيا.
*في السيدة زينب طفلة مقتولة وبلا عيون..
*في النشابية طفلة عمرها 4 سنوات تعرضت للقتل والاغتصاب وتشويه الجثة، ما قلل من روعة القصة إلقاء القبض على المجرم وإعدامه.
* عصابة من خمسة أشخاص تسطو وتغتصب أموال المواطنين في أكثر من محافظة سورية.
* سائق سيارة عمومية وجد مقتولاً في أحد البساتين، بعد أن اصطحبه ثلاثة شبان من قلب المدينة إلى أطرافها، المفارقة كانت غلته 300 ليرة.
* المدعو (م.ح) مارس الشعوذة لأكثر من خمسة أعوام قبل أن تلقي الشرطة القبض عليه، اغتصب عشرات النساء كي يخلصهن من الجن، واعتدى على إحدى القاصرات بالفعل المنافي للحشمة.
* جريدة سالب وموجب التي تصدر في دمشق تحمل صفحاتها العناوين المفزعة من كل المحافظات، حتى تخال أنك وسط مجموعة من اللصوص والقتلة.
من المؤكد أننا لسنا في الاتزان الذي كنا نعيشه أخلاقياً واجتماعياً، وكلنا يعرف الوجع، عاديون، مثقفون، وحتى الخارجون عن المجتمع، اللقمة لم تعد سهلة المنال.
كل ما كتبنا عنه، الدعم ورفعه، الاحتكار، الاستغلال، الحصار، الحكومة غير القادرة على إيجاد حل لمشكلاتنا، الأسعار الملتهبة، الأجور التافهة، عدم الشعور بالسكينة، إخواننا العازبون، أخواتنا العوانس، أشقاؤنا المهجّرون، جارتنا المطلقة التي نهش الناس لحمها.
أيها العجوز الساكن على عامود ضخم كملصق....نحن نشبهك.