تَعَدٍ مقونن على الملكية العامة
عمدت مجالس المدن، في العديد من المحافظات، إلى عرض الحدائق العامة على الاستثمار الخاص، بذريعة عدم توفر الإمكانات المادية لديها لإجراء عمليات التأهيل المطلوبة لهذه الحدائق، ومن أجل زيادة مواردها بغية تغطية إنفاقها العام.
من دمشق إلى حمص مروراً باللاذقية وطرطوس وغيرها من المدن، أصبحت بعض الحدائق العامة محط استثمار للقطاع الخاص، ومجالاً واسعاً أمامه من أجل جني المزيد من الأرباح، على حساب المواطنين وحقهم المشروع بوجود متنفسات خضراء وفسحات عامة للعب الأطفال وممارسة نشاطاتهم والترويح عنهم، بمعزل عن أي دور لمجالس المدن والبلديات بهذا المجال، باستثناء ما يمن عليهم المستثمر من رسوم استثمارية سنوية لقاء العقود الموقعة معه.
تحريف وَلَيٌّ لمفهوم الملكية العامة
المشكلة في بدايتها كانت بالتفسير الخاطئ لمفهوم الملكية العامة، ودور مجالس المدن والبلديات قانوناً وواجباً بصيانتها وبحسن استخدامها ومنع التعدي عليها خدمة للصالح العام، بما في ذلك الحدائق والوجائب، لنصل فيما بعد إلى حسن استثمارها والاستفادة من عائديتها بعيداً عن واجبات الصيانة، ولتصبح أخيراً مواقع للاستثمار الخاص بقوننة ومشروعية وعقود استثمارية منظمة من قبل مجالس المدن بحجة عدم التمكن من إجراء عمليات الصيانة والتأهيل، مع كل ما يمكن أن يقال عن آلية إبرام هذه العقود، وما ينجم عنها من أحاديث، عن صفقات ورشى وسمسرة، وذلك كله في تعمد صريح على لَيّ النص القانوني وتحريفه على مستوى مفهوم الملكية العامة المصانة دستوراً، لمصلحة بعض المستثمرين من القطاع الخاص.
تجاوز على نص العقد
الأمر لم يقتصر بالتعدي على الملكية العامة بموجب عقود استثمارية رسمية مع القطاع الخاص، بل تعدتها بالمساحات الداخلة بحيز الاستثمار في هذه الحدائق بموجب العقود، حيث يمنح المستمر نسبة معينة من مساحة الحديقة العامة كقسم له مخصص للاستثمار بمقابل تحسين وتأهيل هذا القسم وغيره من الأقسام، بما يحقق الفائدة المتبادلة «نظرياً» للمستثمر ومجلس المدينة والمواطن، وذلك حسب بنود العقود الموقعة مع هؤلاء، ولكن على أرض الواقع نجد أن المستثمرين يتجاوزون المساحات المخصصة لهم بموجب العقود، محولين الجزء الأكبر من مساحة الحديقة موضوع العقد لتكون حيزاً لاستثمارهم الخاص، وخاصة المساحات الخضراء التي من المفترض أنها تبقى عامة للمواطنين، بل ويتجاوز الأمر حدود المعقول عندما يمنع هؤلاء المستثمرون المواطنين من دخول حيزهم «الاستثماري المفروض عنوةً» إلا بمقابل مادي، بمخالفة واضحة وصريحة وتعدٍ سافٍر، أولاً: على مستوى بنود العقد الاستثماري الموقع نفسه وثانيا: على مستوى حقوق المواطنين وملكيتهم العامة المشتركة.
تداعيات أخرى
لم تقتصر التداعيات السلبية من دخول المستثمرين إلى الحدائق العامة على رواد هذه الحدائق من المواطنين وخاصة الأطفال، أو التعدي على الملكية العامة فقط، بل تعدتها إلى الإضرار والإزعاج للوسط المحيط بالحديقة، وخاصة القاطنين بالقرب من هذه الحدائق والمطلين عليها من شرفاتهم، حيث لم يعد هؤلاء يهنؤون بأي نوع من الهدوء، بظل الصخب المتعالي من أصوات مكبرات الصوت التي عكف المستثمرون إلى وضعها في الحدائق للترويج لاستثماراتهم، وانتشار الكراسي والطاولات على المساحات الخضراء التي كانت مصدر هدوء ومتعة وسرور للناظرين، ناهيك عن أضرار نفث الأدخنة من «الأراكيل» التي زاد انتشار استهلاكها في هذه الحدائق.
خلاصة القول: هذه الحدائق أولاً وآخراً هي ملكية عامة مصانة بالدستور، بغض النظر عمن لَوَى مواد القانون والدستور لمصلحته، سواء كان هذا الالتواء مصدره جهة عامة أو خاصة.