عبسي سميسم عبسي سميسم

مطبات الغاز الوطني.. والغاز الأجنبي

منذ نحو 30 عاماًَ، حين لم تكن الكهرباء قد وصلت إلى قريتنا بعد، كانت أمي ترسلني إلى الدكان لأشتري لها بلورة للمبة الكاز، وكان البائع يبادرني بالسؤال: هل تريد بلورة أصلية، أم بلورة أرمنازية؟ (والأرمنازية هي بلورة مصنوعة في أرمناز إحدى مناطق إدلب)

وطبعا كنت أختار البلورة الأصلية، لأن أمي كانت تؤكد علي أن أشتري بلورة أصلية نمرة 4 لأنها تضيء بشكل أفضل ولا تسبب «الشحّار»، وقد رسخ في ذهني الطفولي حينها أن أية سلعة ليست أصلية هي حكماَ أرمنازية، وبعد أن كبرنا قليلاً، وكانت قد دخلت سلع وطنية أخرى غير بلورات الكاز إلى السوق السورية، توسع مفهوم الجودة في ذهني لتصبح كل سلعة ليست أصلية هي صناعة وطنية، وأخذ هذا المفهوم الذي رسخ في ذهني رغماَ عني يتسبب لي بعذاب الضمير، لأن تربيتي الطليعية والشبيبية كانت تتعارض مع هذه النظرة الدونية للمنتج الوطني، فحاولت أن أقنع نفسي بأن هناك ظروفاً كثيرة تمنع صناعيينا من إنتاج سلع تضاهي وتنافس السلع الأجنبية، ولما لم أستطع أن أقنع نفسي، رحت أعزيها بأن لدينا سلعاَ وطنية متفوقة على السلع الأجنبية، صحيح أنها لا تصنع في معامل، ولكنها في المحصلة سلع تتداول، فغنم العواس والماعز الشامي هما سلعتان وطنيتان تتفوقان بجودتهما على كل أنواع الغنم والماعز في العالم، ومثلما ينظر السوريون إلى المنتجات الأجنبية على أنها أفضل من منتجاتنا الوطنية، كذلك الدول الأخرى تنظر إلى أغنامنا وماعزنا على أنها أفضل من أغنامهم وماعزهم، ومنذ عدة سنوات مازلنا نقرأ ونسمع عن عزم الحكومة على تطوير الصناعة الوطنية، وتشجيع القطاع الخاص الصناعي على تحسين جودة المنتج السوري، وبالفعل فقد منحت لهذا القطاع التسهيلات لناحية القوانين التي تسهل عملهم، والإعفاءات الضريبية والجمركية، وحتى غض الطرف عنهم لناحية استغلال عمالهم، وبالمقابل فتح السوق السورية أمام بعض المنتجات الأجنبية، علها تكون حافزاَ لهم ليحسنوا إنتاجهم، وينافسوا تلك المنتجات، ولكن الذي حصل هو اندثار كل السلع المصنعة محلياً بعد دخول مثيلاتها المستوردة. فمثلاَ كانت لدينا بعض المعامل التي تصنع ألعاب الأطفال، ولكن بمجرد أن تم السماح باستيراد هذه السلعة، أغلقت كل المعامل التي كانت تصنع الألعاب وتحول عمالها إلى عاطلين عن العمل، وتحول أصحاب المعامل إلى تجار يستوردون الألعاب من الخارج، لنكتشف أن معظم صناعيينا لا يتمتعون بالحس الصناعي، بل يمارسون العمل الصناعي كتجارة، وحين وجدوا أن التجارة من الخارج أكثر ربحاَ من التصنيع اتجهوا إلى الاستيراد. ونستطيع القياس على ذلك في كل الصناعات الوطنية الأخرى، فتجارنا الصناعيون، كانوا أول من خذلنا، وخذل منتجاتنا الوطنية، ليكرسوا في أذهاننا الصورة السلبية عن المنتج الوطني، لدرجة أن موزع الغاز الذي يبدل اسطوانات الغاز في حينا سألني أثناء أزمة الغاز حين أردت أن أستبدل منه أسطوانة للمنزل، إن كنت أريد أسطوانة غاز وطنية أم أجنبية، ولما تعجبت من سؤاله، قال لي: إن الأسطوانة الوطنية بـ 200 ل.س، أما الأجنبية فهي بـ 250 ل.س، ولما سألت عن الفرق بين الأسطوانتين، أخبروني أن موزعي الغاز يسمون الأسطوانة التي أفرغ قسم من محتواها: أسطوانة وطنية، بينما الأسطوانة الممتلئة فيسمونها: أسطوانة أجنبية، فهل وصلت الصناعة الوطنية إلى هذا المستوى بالفعل، أم أن بائعي الغاز مازالوا يحتفظون بذاكرتهم الطفولية عن المنتج الوطني منذ أيام بلورات الكاز؟؟

آخر تعديل على الثلاثاء, 22 تشرين2/نوفمبر 2016 17:53