الجمعة العظيمة في حياة مزارعي الساحل
نعم إنها الجمعة العظيمة في حياة هؤلاء الفلاحين البؤساء، جمعة عظيمة من نوع آخر، عظيمة بأحزانها ومآسيها، وهي ليست الجمعة العظيمة الخاصة بالسيد المسيح، بل إنها الأيام الجليدية السبعة، التي عاشها أهالي الساحل السوري، والتي سيذكرونها طويلاً، بالسوء!.
وجاءت الضربتان على رأس هؤلاء المزارعين المعذبين، الأولى كانت من الطبيعة، قضاءً وقدراً، من الصقيع المتواصل لمدة سبعة أيام، وهو يحدث لأول مرة في ساحلنا الجميل، ومن المعروف أنه يوجد هناك أكثر من مائتي ألف بيت بلاستيكي، لزراعة الخضراوات المحمية، والتي تطعم الشعب السوري، ويعيش منها أكثر من مليون مواطن، بين المزارعين والعمال الزراعيين، وأصحاب الصيدليات الزراعية، والسيارات الزراعية وغيرهم. فجاءت أولى موجات الصقيع الشديد في أوائل كانون الثاني، وبشكل مفاجئ، فأتلفت آلاف البيوت الزراعية، بشكل كلي أو جزئي، والناس يقولون: ربِّ إنّا لا نسألك رد القضاء، بل نسألك اللطف فيه.
وتواصلت موجة الصقيع الشديدة هذه لمدة سبعة أيام متواصلة، والمزارعون يَصِلون ليلهم بنهارهم ولساعات طويلة، يقضونها تحت البرد الشديد والصقيع المتواصل، لكي ينقذوا موسمهم وأمل عيشهم! وإذا كان الثلج والصقيع نعمة في المناطق الداخلية لآجل المراعي وزيادة منسوب المياه، فإنه كان نقمة على أهالي الساحل، الذين قدرت خسائرهم بمئات الملايين.
واجه الفلاحون هذه الموجة القاسية بالعقل والتوكل، والسهر المتواصل لتدفئة البيوت، بإشعال الإطارات أو جمع الحطب وإحراقه طوال الليل، وبشكل متواصل وصل حد اليأس عند الكثيرين، أو بالمازوت، الذي له قصةٌ أخرى محزنة، وأصبح الحصول عليه من الأحلام !
وكأن مزارعنا لا يكفيه غلاء النايلون والأسمدة والأدوية، والتعب المتواصل لشهور طويلة، حتى بدء الإنتاج المنتظر، بل زاد على همومه، القشة التي قصمت ظهر البعير، المازوت وقصة فقدانه، الذي أطار صواب الأهالي وأفقدهم التوازن، فالحكومة تتباهى بدعم المازوت وسعره المخفض، بينما الواقع يقول إنه نادر الوجود، ورحلة البحث عنه طويلة وشاقة.
ـ التهريب على قدم وساق!!
نعم إنها الظاهرة التي يتكلم عنها الجميع بدون استثناء، التهريب الذي لم يتوقف، بل إنه يجري جرياً حثيثاً، ليلَ نهار، بينما مزارعنا يسابق الزمن، ويمضي الليالي ساهراً للبحث عن مصادر جديدةً، في صراع مستميت، لأن عدم تدفئة البيوت، ساعة واحدة، يؤدي لإتلاف موسم كامل، خلال لحظات! وأنا شاهد عيان على ما أقول، فقد ذهبت إلى أكثر من محطة لتعبئة كالون للتدفئة المنزلية، ففوجئت بالمناظر المريعة والمبكية، بآن واحد، طوابير طويلة من السيارات، طوابير طويلة من عبوات التدفئة المنزلية، مصطفة بانتظار الفرج, فهذا يزمر وهذا يكفر، وذاك يطحش وهذا يلوم صاحب المحطة، وآخر يلوم الحكومة، إنه منظر يذكرك بأيام الحروب والزلازل والملمات الكبرى، ومخططات الحكومة لم تستطع، أو لم ترد كبح تهريب المازوت أو وقفه، فالأزمة أصبحت مستعصية لآن الفساد ضرب أغلب العباد!!
يقول الأهالي إن المهربين على نوعين: (فئران التهريب): وهم الشباب والأولاد العاطلون عن العمل، الذين يعملون لحساب مهربين أكبر، فيهرِّبون كالوناً أو اثنين يومياً، لتأمين مصروفهم أو معيشتهم بطريقة أسرع وأسهل. أو (حيتان التهريب): وهؤلاء هم المهربون المحترفون الكبار والذين يأخذون كميات كبيرة من المازوت، بسياراتهم أو بسيارات استأجروها، واستغلوا أو تواطؤوا، مع بعض أصحاب المحطات وبعض عناصر الجمارك ضعاف النفوس، فأصبحوا شركاء لتأمين تهريب المازوت الذي يبحث عنه مواطننا طوال النهار، فأثروا من وراء ذلك، ثراءً فاحشاً، ليس حلالاً، ذكرني بالمقولة الشهيرة: «ما اغتنى غني إلا بفقر فقير».