مطبّات رثاء سانشو بانتا
لم يكن سانشو بانتا تابعاً ساذجاً في بساطته وإخلاصه لجنون معلمه الأسطورة (دون كيشوت)، خصوصاً في لحظات الجنون القاتل ورغبة المعلم في الذهاب إلى أقصى رؤاه الخادعة.
طيبة سانشو أخذته وراء الدون المحارب الواهم، وتصديق صراعاته ومعاركه ورحلاته الكبرى وراء مشاريعه النبيلة، لقد تم اختياره حسب طريقة القادة.. تابعٌ شغوفٌ بفكرة قائده عن العدل ونصرة المظلوم.
(كيخاتا) العجوز الذي كان مغرماً بقراءة روايات وقصص الفروسية التي انتشرت في أوروبا في مطلع عصر النهضة، وكان سائداً أن يسير الفرسان الجوالون متنقلين في أرجاء البلاد وكل غايتهم تحقيق العدل ومساعدة الضعفاء ونصر المظلومين.
إعجابه بهذا النوع من القصص وبهذا الدور في الحياة وصل إلى حد جعله يقرر أن يطلق على نفسه لقباً فروسياً هو(دون كيشوت) أو دون كيخوته.. ويقرر أن يطبق حياة الفروسية ويبدأ بالتجوال في أرجاء اسبانيا تحقيقاً لمبادئ الفروسية.. وحسب تقاليد الفرسان لا بد للفارس النبيل أن يصطحب معه مساعداً يخدمه ويقوم عنه ببعض المهام التي لا يليق بالفارس النبيل القيام بها.. ويكون جاره (سانشو) الرجل البسيط البدين هو المساعد الذي تدفعه رغبته في أن يكون شخصاً مهماً للقبول بمرافقة (دون كيشوت) رغم جنون الفكرة وعدم اقتناعه بها.. تبدأ الرحلة وتبدأ معها الأحداث التي تبين جنون دون كيشوت الفلسفي، فمرة يتخيل قطيع أغنام قادماً باتجاهه كجيش من الفرسان ويبدأ في إبادته، ومرة يتخيل طواحين الهواء أعداء يحاربهم ويفخر بالنصر عليهم!
في أحد المشاهد نجد دون كيشوت وهو يأخذ دست (وعاء) حلاق اعتقاداً منه أنه خوذة، ويأتي الحلاق فجأة إلى حيث الدون الموهوم ليأخذ دسته، لكن الفارس الساخط يرفض بحدة تحويل الخوذة إلى مجرد دست تافه لحلاق. في الحانة يبدأ الاقتراع الساخر، ما إذا كانت خوذة أو دستاً، في تآمر مستور- (يشبه ما وصلنا إليه من مجموعات مصلحية تريد هذا التصويت المبتذل)- على قضية واضحة.
في قصة حب النبيل يرى في (دولسينة) الحبيبة التي لم يرها إلا بشكل عابر، حب الفارس المكابر، لأن الفارس الجوال يجب أن يكون هكذا.. كما يرى هو وحده.
وفي مشهد مؤثر يرسل دون كيشوت تابعه سانشو ليخبر (دولسينة) بعظيم حبه لها، وسعادته بحبها المجنون، كيف يمكن لسانشو البدين التابع أن يعبر دون تلكؤ عن فكرة مجنونة لعاشق لم يرَ حبيبته، وحبيبة لا تعرف عن حبيبها سوى تابعه المرتجف؟!.
ترى من كان الظالم والمظلوم في رائعة (سرفانتس)؟
سانشو بانتا المشغوف العاشق لمعلمه، الذاهل في تنفيذ الأوامر المهووسة دون تردد، والذي يعتقد- رغم هاجسه في أنه تابع لمجنون- ضرورة الإخلاص للقائد الأسطوري، ولبرهة يفاجئ وقد يخالجه الشك في صدق هذا القائد.
بلا شك أننا نمتلك مثل سانشو، لكل منا سانشو التابع المغرم به، المخلص له دون تردد، لكننا نتميز غيظاً من الأغبياء الذين يعتقدون أنهم شركاء في الفكرة المجنونة، مع ذلك.. هيت لك (سانشو).
في عودة لدون كيشوت وصل بعض أقرانه في الوسط الإعلامي إلى الاعتقاد بربوبيتهم، وصايتهم على من هم دون نجوميتهم، وصار البعض يعطي لنفسه الحرية في سرقة نتاج الآخرين ووضع توقيعهم تحته.
بعض مدراء مكاتب الصحف الخارجية يقفلون على أنفسهم، ويمارس بعضهم نشاطات متعددة كمروج لبعض التجار، ووكيلاً إعلانياً للبعض، مع ذلك يتوهم أغلبهم أنهم أساتذة وأن من يحتاجون فرصة للنشر مجرد تلاميذ أغبياء لا يدركون أن الأساتذة عندما يرفضون مادة صالحة للنشر إنما يقومون بإرسالها إلى الصحف الخارجية دون اسم (مدير مكتب)، أو يغيرون العناوين ويضعون عليها عناوينهم الساذجة.
أيها(السانشو).. هيت لك.