مطبّات ظلمتُنا رمزُ حضارتِنا
ممّا لا شكّ فيه أنّ أديسون يعاني الآن في مثواه الأخير من أشد حالات الندم المزمن.. لماذا؟ لأنّه لم يفطن لمدى ضرورة استشعاره لما نحن فيه الآن من عدم الحضارة!! فلِمَن لا يعلَم: أديسون هذا أيقظ زوجته من رقادها العميق ليبشّرها بنجاح تجربته في إنارة المصباح الكهربائي، عندها استشاطت غضباً وزجَرتْهُ قائلة: ألِهذا السبب التافه أيقظتَني أيّها الغبيّ؟! قلت لي إنّك أنرت المصباح؟ إنّه لأمرٌ جيّد ولكن أتعلَم؟ أطفِئْهُ حالاً يا مُزعِج كي أنامَ بسلام. معها حقّ!، إنّه الضوء، مُزعِجِ النوم ومؤرِّق الناس، فلماذا الضوء ما دامت الظلمة موجودة؟ الظلمة ملهمة الشعراء والفلاسفة والأدباء، وملجأ العشّاق من عيون العوازل والحسّاد.
فكم من شاعر تغنّى بالليل وسحرَته الظلمة!، فلولاها لما أمدّنا بإرثه العريق ودُرِّه العتيق. هذه الثقافة وهذا التراث الأصيل اللذَيْن يحاول التلفزيون السوري تعزيزهما في أفئدتِنا، وذلك من خلال عبارات يتم تمريرها في الشريط اليومي الذي يدور في أسفل الشاشة ضمن إطار (الخدمات) وهي لا تعدو كونها جملاً مثيرة للضحك و(التفاؤل)، وتستخفّ بعقول المواطنين، فنخالها موجّهة من معلمة إلى تلاميذها الطلائع. وهذه العبارات من قبيل: (التوفير في استهلاك الطاقة الكهربائيّة دعم للاقتصاد الوطني). يا لها من خدمة جزيلة بالاحترام، فنحن مدينون لتلفزيوننا بهذه النصيحة التي لم نفطن إليها، فكيف نسينا أنّ الاقتصاد الوطني كلّه (وما لهذا التعبير من معانٍ واسعة) هو وقْف على ما نوفّره نحن كشعب كادح من الطاقة الكهربائيّة؟ لم ينسَ التلفزيون السوري أنّ التوفير في استهلاكها دعم للاقتصاد الوطني، ولكنّه تناسى أنّ (فاقد الشيء لا يعطيه)، فمَن رُفِع عنهُ الدعم كيف لهُ أن يَدعَم؟؟ . أما العبارة الثانية والتي تمّ استبدال العبارة السابقة بها، فهي أفصَح وأبلَغ «إنّ ترشيد استهلاك الكهرباء واجب وطني وأخلاقي لنعمل على تنمية هذا الفكر في أطفالنا»!! فإن كان يتوجّب علينا تنميته في أطفالنا، فنحن موافقون، ولكن لماذا؟. ألكي نعتاد فكرة التقنين لتصبح جزءاً من روتيننا القاتل؟. أليس العدل في توزيع ثروة الشعب على الشعب، وتنعّمه بهذه الثروة التي هي ملكه أصلاً، هو واجب وطني وأخلاقي يتوجّب على أصحاب المسؤولية أن ينمّوه في أنفسهم أولاً؟. ثم من ذا الذي يمتلك هذا الإعجاز اللغوي في محطّتنا العزيزة، حتى نقرأ في الشريط اليومي هذه العبارة الحضاريّة الخالصة: (المصابيح الكهربائيّة المضاءة أثناء النهار ظاهرة غير حضاريّة لنعمل جميعاً على إلغائها) وأسأل: ما المقصود بـ(جميعاً)؟. أيستطيع موظّفو التلفزيون أن يستغنوا عن (المصابيح الكهربائية) نهاراً؟؟. أيعلَمون أن هنالك أناساً مسحوقين أراد لهم شيء آخر غير القدر العيش في أقبية لا تصلها أنوار الشمس؟. أيعلَمون بأنّ الأطفال الرُضّع المرضى باليرقان هم بحاجة إلى (المصابيح الكهربائية الزرقاء اللون) ليلاً ونهاراً؟ هل يسمعون بالمناجم والمكتبات والكنائس والمساجد؟. هل ننسى أنّ كل هذه الأماكن وغيرها بحاجة إلى إنارة نهاريّة؟. وهل يمكنهم نسيان مكاتب المسؤولين وغيرهم من أصحاب القصور والمكاتب الفخمة، والتي يجب أن تبقى دائماً مضيئة متلألئة كسرايا الباب العالي، لا لشيء إلا لتبقى مفتوحة للمراجعين والمواطنين الصالحين، والضيوف الكرام. كلّ هؤلاء ومن لفّ لفّهم ونحن معهم، نقترف أموراً ليست بحضارية، لأننا نبقي على مصابيحنا الكهربائيّة منارة نهاراً، كم أنتِ أيّتها الظلمة رَمْز لحضارتنا وساترةً لعيوبنا!. وهنا ثمّة سؤال يطرح نفسه: مَن منّا لا يدفع ما يستحقُّ عليه من فاتورة الكهرباء الدوريّة؟. والسؤال الذي يطرح نفسه أكثر: مَن- منهم- يدفع هذه الفاتورة؟ أجل، صحيح، لقد عرفتم الآن إذاً لمَن توجّهَ تلفزيوننا الكريم بتلك العبارات.