مطبّات أصل الإنسان (قرض)
ليس وقتاً طويلاً الذي استغرقه صديقي د.(إياد شاهين) ليتوصل إلى هذه النظرية، فبعد أن تخرج من كلية طب الأسنان كأمي فقير، كان لابدّ من عيادة ليبدأ معها مشوار عمله، لكن ليس بمقدور أمثاله ممن ولدوا وفي أفواههم الغصة، أن يبدؤوا الحياة سهلة كأبناء الذوات والمتنفذين الذين يتخرجون ليجدوا المستقبل فاتحاً ذراعيه: مرحباً..
سيارة وعيادة في أهدأ شارع بمواصفات (ديلوكس)، وأحدث الأجهزة الطبية مع سكرتيرة بهية الطلة.
لا شيء على الأرض.. إياد وحيداً مع شهادة التخرج.. لاجدار يلصق عليه مشوار الشقاء الطويل.. ست سنوات من الركض من (قدسيا) إلى (المزة)، تساوت الفصول لديه.. الصيف يشبه الشتاء في قسوته.. وبدلة الجامعة الزرقاء تغطي بعض الفقر النافر من عيونه وعيوننا.
ذهب إلى الجيش كفسحة للتفكير لمدة سنتين بمشوار العمل.. كانت كفيلة لأن ينام عقله، وتبرد همة طموحه، ويعود في الإجازة دون أن يسأله أحد (ماذا بعد؟).. فالخدمة الإلزامية فرصة أو هدنة مع الآخرين الذين ينتظرون قليلاً مما قدموا.. هم طبعاً الذين ساهموا في رحلة الحصول على الشهادة، الذين حرموا أنفسهم من المشاوي والملذات والكثير من الدفء.. كان أمانهم هو ما سيصيره ذلك الفتى، عندما يصبح بمقدور (علي شاهين) أن يمشي في حارة (نزلة الأحداث) مبسوطاً.. هو والد الطبيب الذي أحسن التربية صنع مواطناً يحترمه لأجل صنعته الآخرون.. وانتهت خدمة العلم.. وعاد (إياد) دون فكرة خلاص..
تمخضت أخيراً فكرة الخلاص.. الوظيفة كخطوة أولى.. البحث عن شركة تحتاج إلى طبيب.. شركات الأدوية.. دارت الحياة دورتها.. عملان صباحاً ومساءً.. بعض الانتعاش دبّ في عروق الطبيب القادم من رحم الجوع والنزوح.
ثم لا بدّ من عيادة صغيرة تعيد بعض العرفان لأسرته ومحيطه.. كل الذين نشؤوا في ذلك المحيط من الفقر.. تقدم للحصول على قرض ليبدأ مشوار إعادة النضارة لأسنان الفقراء على الأقل.
كطبيب، اشترى (إياد) الأجهزة، ومستلزمات العيادة من القرض الذي منحته الدولة، خمسة عشر عاماً لسداده.. على دفعات كأنها خلجات الروح حين تنتزع.. أما العيادة فهي شقة صغيرة وسط الحي الذي نشأ به، تصلح لأن تكون بيتاً وعيادة طبيب. تزوج (إياد) وأنجب طفلين، وصار طبيب الحارة والأصدقاء، وشاعرهم، بدفعات قليلة، وعلى عدة جلسات.
يعجل (إياد) ليسهّل على مريضه دفع أقل مايمكن من تكاليف وثمن مايضعه في فم المريض، لذلك كانت أرباحه قليلة.. الأجهزة من القرض والعيادة بالإيجار.. منذ خمسة عشر عاماً وهذه حال (إياد).. يدفع للقرض والعيادة مايمكن أن يحصّله طوال الشهر.. وفي إحدى الجلسات معه أطلق تلك النظرية (الإنسان أصله قرض)..
ليس (إياد) وحيداً، ربما استطاع من الألم صياغة نظرية، ومن البؤس ابتداع شيء يضحك.. لكنها حال جميع السوريين الحالمين بمشروع للحياة.. ربما يفشل وربما ينجح، لأن بعض الشهادات لايمكن أن تصلح لقرض.. فماذا تعادل شهادة اللغة العربية أو الإعلام، أو أي فرع في كلية العلوم الإنسانية.. لا يمكن أن تخرج /10/ ليرات من فرعٍ للتسليف، أو بنك خاص..
معظم السوريين وجدوا فرجاً في قروض البطالة.. صحيح أن جزءاً ليس باليسير استخدمه بالاتفاق مع لجان منح القروض لسداد الديون.. ولم يكن لديه مشروع، لكن بعض الأسر استعانت به لتخرج من أزماتها.. لمدة خمس سنوات استمر هذا المشروع، ثم توقف، استفاد منه من ليس بحاجة إلى قرض بطالة، وشاعت حول المشروع الشائعات.. من فساد واحتيال ورشاوى.. لكنه قدم بعض الخدمات لمن لا حول لهم ولا قوة، القاعدين على رصيف الجوع بلا منقذ أو معين.
معظم موظفي الدولة، أصحاب الدخل المحدود، تقدموا بقروض.. ووفق الشروط التي أرادتها المصارف.. ومع كفالات غير رواتبهم، لا بدّ من كفيلين، إما موظفون، أو تجار.. فراتب الموظف لا يعد كفالة لتسديد القرض، ويجب أن يكونوا خدموا الدولة لأكثر من عشرين عاماً، ومجموع رواتبهم يمكن أن تغطي كفالة المقترض.. مع ذلك يتعاون الموظفون ليسحبوا قروضاً قد تساهم في بناء سقف أو فتح مشروع صغير يعين راتب الدولة المقسوم على قرض وسُلف وتلفزيون ملون /21/ بوصة بشاشة مسطحة.
أصل الإنسان (قرض).. من يقضي نصف أو ثلث عمره في سداد الدولة مامنحته مضاعفاً.. طبيباً.. محامياً.. موظفاً.. معلماً.. مستخدماً في مدرسة.. مدرّساً في جامعة.. إنه (القرض) أصل الإنسان السوري.