أين ذهبت رؤوس أموال الرأسمالية السورية؟ وما هي مطارحها؟!
كان منطق الرأسمالية الوطنية في سورية خلال أربعة عقود من القرن الماضي، يعتمد على ترديد القول الاقتصادي أن الرأسمال الوطني لا تُترك له حرية الاستثمار من أجل الإعمار والتنمية. كان هذا القول رداً على قول آخر مفاده أن هذا الرأسمال هو رأسمال مدّع وكسول وجبان وغير عملي، وهو يفكر دائماً في استخدام الوسائل الطفيلية الصرفة في الاستثمار، وليست له من غاية إلا الربح الفاحش السريع، وبأسهل الطرق وأقصرها
تداول القولان الاقتصاديان منذ الاستقلال حتى الآن، وكانت هناك فرص للرأسمالية الوطنية لممارسة دورها، وكانت الظروف مهيأة لتتمكن من إثبات وجودها وتأكيد دورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً في الحقلين الأساسيين: الإنماء الزراعي والصناعي.
إن الرأسمال الوطني، كان بعد الاستقلال ضعيفاً ومحدوداً وجاهلاً، وغير واثق بالمساهمات الجماعية في الاستثمار، لكنه مع ذلك، كان قادراً على أن يتحرك ويفتح آفاقاً واسعة للنشاط، لكنه لم يفعل ولم يستفد من إمكانية جذب المدخرات الفردية لساحة نشاطه بطرح مشروعات كبرى، ولم يؤسس شركات زراعية وصناعية تغري المدخرين بالمساهمة فيها.
أين ذهب الرأسمال الكبير؟ وما هو حقل نشاطه؟ اختار التجارة الداخلية والخارجية والخدمات بمختلف وجوهها وتشعباتها، وهنا نجد أنه نشأت في سورية رأسمالية ولكنها ليست رأسمالية زراعية، وليست رأسمالية صناعية، بل رأسمالية تجارية، ولأن التجارة مهما كانت مربحة فهي محدودة وآنية وشملت جميع أصحاب رؤوس الأموال.
أما رؤوس الأموال الكبيرة فقد نزحت إلى الخارج، وكانت حصة القطاع الخاص من مجمل التكوين الرأسمالي تنخفض عاماً بعد عام، فقد كانت تبلغ عام 1977 40 % ونزلت عام 1980 إلى 36 % وتراجعت عام 1985 إلى 30 % وهكذا.... وبرز خلل أصاب التوازنات الاقتصادية وأفرز صعوبات تجسدت في نمو القطاعات الخدمية بمعدلات تفوق معدلات نمو القطاعات السلعية، وزيادة الإنفاق الإجمالي بشقيه الاستثماري والاستهلاكي بوتائر عالية، وزيادة الاعتماد على القروض والمساعدات الخارجية في تمويل الاستثمار، وبالتالي برزت فجوة بين الاستثمار والادخار المحلي، أو زيادة الاستيراد بمعدلات أكبر من التصدير، وزيادة التدفقات النقدية بمعدلات أكبر من زيادة التدفقات المادية المقابلة لها، كما أن عدم التناسب الكمي والهيكلي كان واضحاً بين الاستثمار والناتج المحلي بسبب التشتت في توزيع الاستثمارات وعدم تكاملها كما يجب.
مرحلة التأسيس
ما جرى جرى منذ منتصف السبعينات حتى بداية التسعينات من القرن الماضي، وتم التأسيس لهذه المرحلة الاقتصادية الليبرالية ولكن السؤال يبقى:
أين كان القطاع الخاص وما هي مواقعه؟
لم يتم وضع حدود واضحة بين القطاع العام والخاص في مجال الاستثمار وفي العلاقة.
ولم تتخذ إجراءات من أجل وقف تحول أجزاء هامة من القطاع الخاص إلى النشاطات الطفيلية التي تحقق أرباحاً طائلة دون جهد، وذلك من خلال توسيع إشراف الدولة على التجارة الخارجية وتجارة الجملة ومكافحة التهريب، بل انخرطت قيادات سياسية وغير سياسية في النشاطات الطفيلية التي يمارسها القطاع الخاص، وانغمست شرائح عديدة في فساد معلن من خلال العقود الخارجية والاستيراد والتصدير والعمولات والتزوير، رغم أنه وفي العام 1979 صدر المرسوم /51/ محظراً قبول الوسطاء والسماسرة في جميع أنواع العقود الخارجية، وفي 7/2/1980 صدر بلاغ تفسيري عن رئاسة مجلس الوزراء موضحاً أحكام المرسوم، وكان منتظراً من المرسوم والبلاغ أن يقضيا أو يحدَّا من نشاطات السماسرة، وينظما مفاهيم التعامل بالوكالة مع المنتج أو المصدر أو البائع.
لكن شيئاً لم يتحقق.. واستمر نشاط السماسرة، واشتدت دسائسهم، واختفوا خلف أسماء مسؤولة وقيادات وشركات وهمية لا وجود لها، وانتشر الفساد.. بل انتشر الصراع بين مدراء ووزراء وأصحاب رؤوس أموال، وأقيمت علاقات تحالفية بين مسؤولين كبار ومدراء في شركات القطاع العام وأصحاب رؤوس أموال، واستمر الوضع هكذا حتى تراكمت الكثير من الثروات الطفيلية، وتم إيصال القطاع العام إلى الانهيار من خلال العقود المجحفة والتكنولوجيا المتخلفة والسرقات والهدر...الخ.
كيف يكون إنتاجياً؟
أمام هذه الوقائع .. سمسرة.. أرباح.. عقود.. صفقات.. شراكات.. تهريب.. تجاوز القوانين والأنظمة. هل يمكن أن يدخل القطاع الخاص إنتاجياً في الميدان الصناعي أو الزراعي؟
لا يمكن ذلك طالما أن ميادين التجارة والخدمات والوساطة والسمسرة والتهريب وغيرها تحقق له سيولة كبيرة، لذلك نشأت في سورية رأسمالية غير زراعية وغير صناعية وإنما رأسمالية طفيلية قوي ساعدها الآن، وتمارس دورها الكامل.
دور الحزب الحاكم
مقررات مؤتمرات الحزب السابع والثامن نبهت إلى الخطر الذي تمثله ممارسات الرأسمالية، ومحاولاتها المستمرة لإثبات وجودها، وقيادة عمليات البناء والتمويل، وتخريب القطاع العام، وفرض علاقات اجتماعية وإنتاجية مختلفة، لإقامة مجتمع استهلاكي لتسهيل مرورها وتنفيذ أغراضها.
ولكن هذه المقررات لم تنفذ، لأنها كانت تؤذي فئات قيادية كان لها شراكات ومواقع نفوذ فاغتنت على حساب المجتمع (ولا يعدُّ عبد الحليم خدام الحالة الوحيدة).
وبشكل عام فإن الهدف من هذا الحديث التركيز على نقطة أساسية وهي: أن الرأسمالية الوطنية التي تقيم مشروعات إنتاجية زراعية أو صناعية هي وطنية فعلاً، لأن مصالحها ترتبط بالوطن، أما الرأسمالية الطفيلية فإن مصالحها في الخارج أولاً وأخيراً. وقد كان الجو العام مهيئاً لبروز الفئات الطفيلية وسيادتها.