بعد انهيار القطاعين الزراعي والصناعي، ماذا تَبقّى لنا؟!
كان كل ما يملكه أحمد الجاسم 200 رأس من الغنم، وأمام مافيا الأعلاف كان يبيع يومياً عشرة رؤوس من أجل إطعام ما تبقى. بعد شهر بقي لديه 30 رأساً، وقرر بيع الجميع، لكن لم يجد من يشتري على مدى عشرة أيام في بازار حماة، ولم يستطع تمالك نفسه، فركب الشاحنة الصغيرة التي يملكها، وهجم بها على الأغنام ليدهسها بدل أن تموت جوعاً، وأصيب بهستريا، وأدخل المشفى ليلفظ أنفاسه الأخيرة.
هذه حال واحد من المئات من مربّي الأغنام، وهذا يبين أن الثروة الغنمية أمام كارثة حقيقية، وبشكل واضح، ليست نتيجة مواسم الجفاف السائدة على وجه العموم، وإنما بسبب مافيا تتحكم في استيراد العلف وفي أسعاره، مافيا تتقاسم الحصص مع أصحاب النفوذ، ولم تُقِم الدولة معامل أعلاف تكفي الحاجة، ولم تكن هناك سياسة واضحة بعيدة المدى لإنتاج الأعلاف تهدف إلى تحقيق التوازن بين الإنتاجين النباتي والحيواني، وتسمح بإدخال تربية الحيوان في النظام الزراعي، وعدم تنفيذ برامج تنمية وحماية للمراعي الطبيعية، وخاصةً البادية السورية، وعدم الاستفادة المثلى من مخلفات المحاصيل الزراعية ومخلفات المسالخ، وعدم وجود احتياطي علفي استراتيجي ومبرمج لمدة ثلاث سنوات، وخاصة من السفّير، لاستخدامه في سنوات الجفاف.
وما جرى للاغنام يجري مثيله أيضاً للإبقار والمداجن، والمؤسسة العامة للأبقار التي تضم أكثر من 13 ألف رأس بقر من جميع الأنواع، وصلت إلى مرحلة الانهيار، وهي خاسرة على مدى سنوات ولكن ليس بسبب الأعلاف وإنما بسبب بعض الإدارات التي سرقتها علناً دون مساءلة ومحاسبة. كذلك قطاع الدواجن حيث أُغلقت 70 % من مداجن سورية، بسبب تحكم السماسرة والتجار بأسعار العلف المستورد، وتكبد المربون خسارات كبيرة، إضافة إلى عدم وجود جهة متخصصة في تنظيم عمليات تسويق منتجات الدواجن، بهدف المحافظة على استقرار برامج التربية على مدار العام وتحقيق ربح مناسب وثابت للمنتج، وعدم تأمين الرعاية الصحية والإدارية واللقاحات في الوقت المناسب.
على صعيد الزراعة، رصدت الوزارة واقع الحال ولكن دون بحث أسباب الانهيار، فقد أشارت خطة وزارة الزراعة المقترحة للموسم الزراعي 2008 ـ 2009 إلى مجموعة من السلبيات التي واجهت تطور القطاع الزراعي، متمثلة في تدني الخصوبة في بعض المساحات وتلوث التربة والمصادر المائية لأسباب متعددة صناعية وسكانية، إضافة إلى النقص في المصادر المختلفة للمياه وخاصة المياه الجوفية، وسوء إدارة الموارد المائية وتدهور المراعي الطبيعية في البادية نتيجة الرعي الجائر وحركة الآليات العشوائية، وتفتت الحيازات الزراعية إلى حدود تعيق استخدام المكننة، إضافة إلى عدم مواكبة أنشطة التسويق والتصدير والتصنيع، لعمليات تطور الإنتاج، ما ساهم في تخفيض ريعية العمل الزراعي، وعدم الاستفادة من القيمة المضافة. وتلحظ الخطة وجود نقص في المساحات المروية بمقدار 8.5 ألف هكتار، مقارنة بالموسم السابق.
كان الاقتصاد السوري في الماضي يعتمد على الزراعة وقد بلغت مساهمة هذا القطاع في الاقتصاد الوطني عام 1963 نسبة 25 % وانخفضت إلى 13 % عامي 1984 و1985 وفي العام الحالي 2008 تبلغ النسبة 27 % فقط، رغم الزيادة الهائلة في عدد سكان سورية ما بين عامي 1963 و2008.
هذا يعني بشكل واضح أن القطاع الزراعي لم يواكب تطور القطاعات الأخرى على الرغم من الشعار الدائم المرفوع: «الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي». وإذا كانت مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد الوطني للعام الحالي 27 % فإن النسبة في الأعوام القادمة سوف تقارب الصفر، والسبب ليس في تدني الخصوبة وتلوث التربة والجفاف، المعزوفة اليومية للفريق الاقتصادي الحكومي، إنما في قرار يبدو أنه قد اتخذ من الطاقم الحكومي بإنهاء الصناعة الوطنية في القطاع العام، وهذا واضح من خلال وقف الاستثمار فيه وعدم إصلاحه وترك شركاته للخسارة والموت البطيء، ثم التوجيه للحد من زراعة القطن والحبوب والشوندر وفول الصويا بسبب الجفاف وتملح الأرض. وأمام ذلك كيف يمكن أن نتحدث عن أهمية تطوير طرق الري وشبكات الري والإسراع في استثمار الموارد المائية الضائعة؟
هناك معوقات ومشاكل وصعوبات في عمل المصرف الزراعي التعاوني، وفوضى في العملية التسويقية، في غياب المؤسسات التسويقية، وانتشار الفساد والرشاوى في تسويق المحاصيل الاستراتيجية.
يتحكم التجار والسماسرة بأسعار المنتجات الزراعية، لعدم وجود سياسة سعرية ثابتة ومستقرة، منسجمة مع الأسعار الفعلية والخارجية للمنتجات.
بداية الثمانينات من القرن الماضي تميزت بالعجز الغذائي وبدءاً من العام الحالي سوف يكون هذا العجز أكثر تواتراً، وهذا واضح من خلال موسم القمح هذا العام، حيث أنه لم يصل إلى مليون طن.
السؤال: ماهي أسباب العجز بين الانتاج والاستهلاك؟
هل أصبحت الموارد الطبيعية الزراعية والمائية عاجزة عن تلبية الطلب؟! أم أن ما يحدث هو نتيجة طبيعية وموضوعية للأسباب والسياسات التخطيطية الليبرالية، وعدم إيلاء القطاع الزراعي أهميته اللازمة؟
إن دراسة أولية لموارد سورية الطبيعية الزراعية، وعلى رأسها المياه، تبين أنه مازالت هناك طاقات كامنة كبيرة غير مستثمرة، ويمكن في حال استغلالها بالشكل المبرمج وحمايتها من الهدر والضياع، أن نؤمن كامل احتياجات سورية من السلع الزراعية، ونؤمن أمناً غذائياً على مستوى السلع الإستراتيجية كافة.
إن التوجهات الرئيسية لتحسين كفاءة استثمار الموارد المائية يتحدد بالتفكير الجاد في استراتيجيات جديدة في استثمارها، وذلك باستغلال الواردات المائية وإقامة مشاريع الري الشتوي والتكميلي، وفق دورات زراعية ثنائية، قمح ـ شعير ـ أعلاف، بحيث تشكل المناطق المختارة خزاناً للأمن الغذائي للسلع الرئيسية (قمح ـ أعلاف ـ وتربية الحيوان).
ولكن الواضح أن تحويل سورية إلى منطقة حرة وبلد خدمات، كما يقول النائب الاقتصادي، قد بدأ فعلاً.