الأمطار.. والمواطن.. وفضائح البنية التحتية
كلما هطلت الأمطار بغزارة، وهو الذي بات قليل الحدوث في معظم أرجاء بلدنا، يرتبك المواطن السوري ويشعر بتناقضات عجيبة لها أول وليس آخر.. هل يتمنى أن يستمر المطر في الانهمار لكي يغسل تلوث المدن المسقوفة بسحب الرماد الزاخرة بالسموم، ويروي الحقول والمراعي، ويملأ الخزانات الجوفية والسدود السطحية ومجاري الأنهار المتفسخة بسبب الجفاف، أم يدعو السماء والغيوم للتوقف والانكماش والانحباس، لكي لا تغرق الشوارع، وتتعطل الكهرباء، وتنقطع الطرق، وتدلف السقوف، وتطوف المجاري العامة والخاصة، وتغسل المزاريب العشوائية رؤوس الناس؟
الأمطار هي سر وجود سورية الطبيعية، سر ولادة الحضارة فيها، وسر عبادة سكانها للإله «بعل» طوال ألفي عام، وحتى بعد التوقف عن عبادته ظل يتجلى بأسماء أخرى، وظل اسمه الأصلي حيّاً يرمز للأراضي والحقول والثمار التي ترويها السماء لا المياه الجارية.. والأمطار هي آخر تجلّ ثابت للطبيعة في زحمة الحضارة.. آخر خيط لعلاقة الناس بها.. الأمطار هي احتفاء موسمي باستمرار شروط الحياة... ولكن القائمين على القطاع الخدمي بمختلف مناحيه في بلادنا، يتفاجؤون بها كلما عرّجت علينا، وكأنها تزورنا للمرة الأولى.
تطوف الشوارع وتغرق عند أول زخة، فتجد ورشات الخدمات في مديريات المحافظات مذهولة، عاجزة، متخبطة، منهمكة، وكأنها كانت تتوقع أو تتمنى ألا تسقط نقطة واحدة! تهب بعد تلكؤ لفتح الريغارات المغلقة التي تنتصب كخوازيق عثمانية في قلب الشوارع دون أن ينتج عن ذلك أية نتائج إيجابية.. تحضر الصهاريج الشافطة التي تنقذ شارعاً لتغرق آخر.. ثم لا تلبث أن تتعطل وتحتاج لمن ينقذها دفشاً أو شحطاً.. في هذا الوقت الذي صيفه ضيع لبن شتائه، يغوص الناس، الكبار والصغار في الوحول والمستنقعات.. تنطفئ محركات السيارات العتيقة وسط البرك.. تحدث أزمات مرورية تتسبب للبعض بالجنون فيطلقون الشتائم في كل الاتجاهات..
تنقطع الكهرباء، تذوب الأسلاك، تحدث ماسات خطرة في كل الأحياء، وقد يسقط ضحايا، فيخرج عمال الطوارئ الفقراء باحثين عما قد يسلبونه من فقراء آخرين لقاء إعادة تشغيل مصابيحهم التي تنير كتب أبنائهم المدرسية.. أما الأحياء المعروف عنها من أزمات مشابهة سابقة أن سكانها مدقعي الفقر لا يستطيعون دفع قرش واحد لرجال الطوارئ، فعليها أن تنتظر حتى تمضي العاصفة.. ثم.. لا شيء أبداً.. لا أحد يسأل مدير كهرباء أو رؤساء ورشات الصيانة أو حتى وزير الكهرباء لماذا يحدث كل ذلك؟. وهنا، في معظم الأحيان، قد لا يختلف السائل عن المسؤول (عموماً) في شيء.. لا في نوع السيارة ولونها وطرازها، ولا في الشاليه والمزرعة والثقافة (الوطنية) والرصيد الشخصي.. فلمَ يكون السؤال أصلاً..
تتمزق الطرقات الهشة، تخلع عنها ثوب الإسفلت الرقيق البالي، تصبح مجرد حفر وأفخاخ متناثرة تحت الدواليب والأقدام.. تسارع الورشات التي كانت نائمة واستفاقت على صوت الرعود، فترمم وترقّع قبل حضور اللجان الفاحصة لرداءة الثوب الممزق، لكي لا تقاسمها في اللقمة الحرام التي التهمها رؤساؤها ومديروها وشركاؤهم المتعهدون ومن يحميهم ويمد بأعمارهم في جهات أعلى..
هكذا تسير الأمور حين يفضح المطر بنيتنا التحتية الضعيفة، المنهوبة، المهملة.. وبالتالي فبلادنا تغرق.. ويحتاج إنقاذها إلى أكثر من الكلام والشعارات والخطط المفرغة من تحدياتها الحقيقية..