المرأة السورية العاملة.. وجوه متعددة للرق والحاجة!

لم تجد ياسمين في عملها الجديد ما يعيب أخلاقياً، وهي التي تربت في أسرة محافظة، فالوظيفة الجديدة لم يعترض عليها أحد من أهلها، فالكل يعتقد أن مهنة الطب من أرقى المهن الإنسانية، وسكرتيرة لدى طبيب أي نصف ممرضة، ليست مهمتها الرد على الهاتف وتحديد المواعيد للمرضى، بل يمكن أن تساعد الطبيب في تجبير يد مكسورة، خياطة جرح، قياس درجة الحرارة والضغط، أي المساهمة في تحضير المريض ليكون في متناول اليد الحانية؛ هي كذلك مهنة راقية ولا تقل أهمية..

لكن الأمور لم تكن كما تعتقد ياسمين ومن حولها، الطبيب لم يكن يريد من ياسمين سوى البرستيج الذي يفرضه وجود أنثى جميلة وصغيرة في عيادته، وبأجر زهيد لا يتعدى الـ6000 ليرة سورية في أفضل الأحوال، وفي دوامين صباحي ومسائي.

ياسمين انكفأت على ذاتها، ليست سوى سكرتيرة عادية لا طعم ولا رائحة. 

طالبات جامعيات

- في السنة الأولى من دراستها الجامعية، كان لا بد أن تعمل (خولة) القادمة من الريف البعيد. معظم من سكنت معهن في المدينة الجامعية يلبسن أفخر اللباس، يذهبن في مشاوير مسائية، يأكلن ما يشتهين، وحدها كانت تصر على أن الحياة موقف، وأن الصبر يصنع المعجزات، والجامعة مجرد سنوات أربع وتنتهي.

حاولت أن تصمد في وجه المغريات، لكن الـ1000 ليرة الشهرية التي يستطيع أهلها إرسالها من مصروفهم، من أفواه إخوتها الصغار لا تكفي لسداد ثمن الطعام في عالم الغلاء، وظيفة بدوام مسائي ربما تحل المشكلة.

أقرب الزميلات قادت الطالبة البريئة والجدية إلى العمل، دوام مسائي، وراتب شهري مغرٍ  8000 ليرة سورية، طار عقل خولة، أصبح بالإمكان إرسال بعض النقود لأهلها.

صاحب الشركة، وسيم، رشيق، تجاوز الخمسين من عمره، اشترط شيئاً واحداً بسيطاً، مشوار عمل مسائي لا ضير منه.

بعد سنوات من العمل، لم يعد أحد يعرف خولة، ضاعت من ملامحها براءة بنت الضيعة، سقطت كل الأحلام، صارت امرأة (ناضجة) قبل أن تصير، وتركت الغرفة الجامعية، وصارت سكرتيرة المدير العام بشهادة تقدير.

- تخرجت من الجامعة، كان لابد من العمل، فمن البديهي أن كل سنوات الجامعة يعقبها سنوات من العمل باتجاه الاستقرار، كان ذلك ما يدور في ذهن ريما، لكن لا مسابقات في اختصاصها، والشركات العامة لا بد من واسطة كبيرة لتعيينها، لكنها لا تعرف أحداً في هذا المجال لتلجأ إليه.

حملت شهادتها وطرقت الأبواب لكنها كانت مغلقة، وضعتها جانباً، وقعدت في المنزل، الفرصة القادمة الوحيدة هي في ابن الحلال، لم يطرق الباب أحد.

الهاتف الذي غير حياتها كان من الزميلة الفاشلة في مقعدها الجامعي، وظيفة في فندق خمسة نجوم، والشهادة الجامعية التي قضت من أجلها كل عمرها في الدراسة، أين ستذهب بها؟ علقيها على (الحيط).. قالت الزميلة الفاشلة.

موظفة في قسم الاستقبال صارت ريما، ساعدها في ذلك لغتها الأجنبية الجيدة، لكنها موظفة استقبال فقط عليها أن تبتسم لجميع أنواع وجنسيات الزبائن.    

أجساد

في مدخل الملهى الليلي، البوابة التي تفاتح مثل بوابات أفلام (الفرجيني)، وسكارى رعاة البقر، الأضواء الخافتة، الستائر الملونة، في الصدر لوحة لفارس أسود يختطف على فرسه أميرة بيضاء، نحن اللوحة المثيرة لرجولة الشرقي الساذج، أربع فتيات لم يقتربن من العشرين، ملابس فتيات الغرب الأمريكي حين تقود الرذيلة عاملة المقهى إلى الليل الساخن، من جنسيات مختلفة، محليات، عربيات، من الشرق إلى الغرب بلباس موحد، وجوه متشابهة تتصنع الإثارة.

فايزة وأختها، من المسرح الخاص، إلى الملهى... ثم إلى البيوت السرية، رحلة مليئة بالألم والسهر وإعدام إنسانية الإنسان.

أما لماذا اختارت الأختان هذه المهنة، تقول فايزة: أسهل المهن وأكثرها دخلاً، هل تستطيع أن تجد لي وظيفة لأترك الدعارة (قالتها بتهكم).. وأدارت ظهرها.

في الطريق الطويلة إلى غوطة دمشق، تمر السيارات العمومية محملة بالنساء بعد منتصف الليل إلى الوصلات الدائمة في ملاهي السمر الآخذة بالتزايد والانتشار..

أحد الفنادق التي تتوسط العاصمة يصادف أن تتواجد أمامه 10 عشر سيارات لنقل الفنانات كما يسمّين، الطلبات الخصوصية إلى أماكن العمل، وشقق الرق الفاخرة.

طريق الربوة المزدحم، الصيف اللذيذ في جوار بردى الذي كان، الطريق إلى جبل الشيخ، الطرق المزدحمة إلى الركام الفقير كلها تؤدي إلى هناك.. إلى حيث المتعة والاتجار (الحلال) باللحم الوطني.. 

فيليبينيات وطنية

  أم حسين تعمل في مسح الأدراج، تنظيف البيوت، كما تسمى في الدارج (لفاية)، تعمل في أكثر من بناء في المزة، 500 ليرة عن كل يوم تقضيه في خدمة الذوات كما تسميهم، تقول عن بعضهم إنهم طيبون، والبعض لئيمون، لكنها تعود إلى البيت بطعام أطفالها.. في الماضي الذي مازال في الذاكرة دهست (أبوحسين) سيارة أحد الذوات..

لكن في السنوات الأخيرة وبعد الانفتاح الذي تشهده البلد صار لأم حسين وأمثالها منافسات، غير محليات، منافسات من دول محترفة في تصدير العمالة النسائية، والاتجار بها:

الفلبينيات، الأندونيسيات، الأثيوبيات صرن في واجهة العمالة ببلدنا، الخادمات غير الوطنيات، بأسعار جديدة ورخيصة، لكنهن يتميزن بالتأمين.

كل من يحملن الجنسيات المذكورة لهن تأمين في عقد استخدامهن، يصل إلى 1000-1500 دولار، مع راتب شهري يصل إلى 150-200 دولار، مع إجازاتها ولباسها ومأكلها..الخ.

أم حسين تتمنى أن تكوم فيليبينية لكن.. وطنية. 

خلف ماكينة الخياطة

قضت نوال 20 عشرين عاماً في العمل بالخياطة، خلف (مكنة) سنجر قضت 10 سنوات، ثم جاءت المكنات الصينية وأخذت الساحة، وصار المطلوب موديل على الماشي.. المهم سرعة في الإنتاج.

تغيرت الآلات ولم يتغير أجر نوال إلا قليلاً، ما زالت خلف المكنة وأصيبت بالدوالي، وعرق النسا، وخف بصرها، وشاب شعرها... بعد عشرين عاماً مازالت تعمل براتب لا يتجاور في أحسن حالاته 12000 ليرة سورية لا غير.

صاحب العمل يهددها بالطرد منذ اليوم الأول، لا عقد، لا تأمينات، ورشة صغيرة صارت معملاً، وهي صارت عجوزاً، لا ضمان لكل هذا الانحناء الطويل خلف المكنة.

هو الرق بكل ما تعني الكلمة.. استعباد للجسد.. للعمر، هكذا تقول نوال! 

مندوبات

- تسول بطريقة مختلفة، المهنة التي اعتقدت أغلب العاملات فيها أنهن وصلن إلى مهنة تحتاج إلى موهبة خاصة هي القدرة على الإقناع.

مندوبة مبيعات تعمل سوسن منذ سنة، دخلها الشهري لا يتجاوز الـ 2000 ليرة، فهي تعمل على النسبة، عملت في أكثر من شركة، تسوق رغم عدم قناعتها بالمنتج، مرة في العطور وعلب المكياج، مرة في كتب دور النشر، وآخر الوجع في أجهزة تنقية الماء.

تقول: صاحب الشركة، ما يهمه هو الكم الذي يمكن أن تبيعه المندوبة، كيف، ما هي

الوسيلة، الجهد المبذول، كل ذلك غير مهم.. اليوم الذي لا بيع فيه، لا أجر فيه. 

- مندوبات الإعلان شكل آخر، الدخول أعلى قد تصل إلى أكثر من 100 ألف ليرة في الشهر إذا كانت المندوبة ذكية وجميلة، مع بعض التنازلات، والقبول بغداء أو عشاء مع المعلن المحلي وغير المحلي.

وهنا قد تعمل في جريدة، مؤسسة إعلانية، تلفزيون، إذاعة، صحيفة، النسب واضحة، قليلات من لا يتمتعن بالجمال، شرط أساسي للمندوبة الناجحة.

في الكافيتريا

لم يعد الرجال صالحين لتقديم الشاي والقهوة في زمن النيوليبرالية، ولا للترحيب بالزبائن، الطريقة الجديدة لاصطياد الزبائن من الجنسين هي استخدام الفتيات في العمل كـ (كراسين) في الكافيتريات الصغيرة، مطاعم الفنادق، وحتى في المراكز الثقافية. السبب أن الزبون لا يعترض على الفاتورة، فهو يرى وجهاً حسناً، ويسمع صوتاً ناعماً.

تقول إحداهن: التي تعمل في هذه المهنة يجب أن تكون على يقين أنها ستصبح عرضة للتحرش والعروض الوقحة.

أما الأجر الذي تتلقاه فهو زهيد لا يتجاوز الـ 5000 ليرة، لكنها تعتمد على (البراني)، وهو ما يمكن أن تغنمه من الزبون بشطارتها، وشطارتها على الغالب، تعني إمكانيتها على تقديم أكبر قدر من التنازلات.  

رق وحاجة؟

في المحصلة كل هذه الأعمال التي صارت من ثقافتنا اليومية، من المشاهد المعتادة والتي لم تعد تثير اندهاشنا، كما لم نعد نفغر أفواهنا لسماعنا بقصة اغتصاب، تحرش، مهنة جديدة للمرأة، صارت كل الأشياء في هذا السياق دون دهشة فعلاً.. باتت عادية.

النتيجة القاسية أنها نتاج واقع اقتصادي مرعب، الحاجة هي التي تدفع هذه الأسراب النسائية لارتداء ثوب الرذيلة حيناً، وحيناً آخر ثوب الرقيق.

الحاجة التي تدفع المرأة للذهاب إلى انحرافها دون تأمين أو حماية، لا الجهات الحكومية ممثلة بالشؤون الاجتماعية تدرك الدور المناط بها لحمايتهن من الاستغلال، ولا التأمينات الاجتماعية قادرة على فتح الأبواب الموصدة على طبقة عاملة تدفع من عمرها وجسدها.

لن نقول رفقاً بالقوارير... ولا المرأة أمانة، ففي عصر الاستهلاك، عصر الاستثمارات حتى على صعيد الإنسان الذي تحول إلى سلعة رخيصة قابلة للتفاوض، لم يعد يجدي سوى الرفض!

ربما في وقت قريب لن يدهشنا أن نرى النساء يبعن أرحامهن، أعضائهن.. فصاحب الحاجة أرعن، كيف إذا كان امرأة، أيها الشرق الذي ينخره الادعاء؟!

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 19:50