عائلةٌ منكوبةٌ في القامشلي تنتظر مَن ينقذها..
كثيراً ما نسمع في هذا الواقع الذي نعيش فيه قصصاً مأسويّة تذوب لها الأفئدة، ثمّ يمضي كلّ منّا في سبيله، ليتذكَّر بعدها تلك القصص بشيء من الشفقة، أو يحكيها كمصائب يدعو الله أن يبعدها عنه وعن أحبّائه. لكنّ ما نحن بصدد عرضه الآن، أبعد غوراً في النفس من كلّ تلكم القصص/ الغصص/ التي نتداولها فيما بيننا
ذلك لأنّ عائلةً بأكملها تنتظر الموت الذي يتربّص بأبنائها جميعاً، ليقطفهم الواحد تلو الآخر، والكلّ يعرف، ولا أحد يحرّك ساكناً، حيث أن المرض المزمن، متواطئاً مع الفقر المهلك، وانعدام المدد والسند، ينال منهم. فصحَّ عليهم قول المتنبّي: (أصابني الدهر بالأرزاء حتّى... تكسّرت النصال على النصال).
إنّها عائلة «محمّد عمر» التي تسكن في مدينة القامشلي، حيّ الهلاليّة، هذه العائلة المؤلّفة من تسعة أفراد، تعيش الفاقة والحرمان، في بيت للأجرة. و«محمّد عمر» هو أب أرهقه المرض والجوع يعمل عتّالاً، يعاني الأمرّين خلف عربة يجرّها، ويجوب بها الأسواق والحارات بحثاً عن لقمة تقيه وأولاده الجوع والحاجة. ولكن أنّى له ذاك وقد بلغ به المرض ما بلغه من مراحل خطيرة. فلم يعد يستطيع تأمين قوته الشخصي، فكيف بمصروف خمسة مَرضى، يحتاجون إلى العناية والأدوية والطعام والشراب النوعيّين. أما الأم فهي امرأة عليلة لا تغادر الدمعة مآقيها، فلا يستطيع المرء أن يتمالك نفسه وهو ينظر أو يستمع إليها، لأنّ الشحوب يغزو وجهها، وآثار المرض المزمن بادية ومؤثّرة عليها، تقول وهي تنشج: «ليتني أموت قبل أن أرى أولادي يموتون أمامي، فما عانيته في موت ابنتي الكبرى نسرين قبل سنتين، لم تعانه أمّ على فقيدها من قبل، ما زلت أسمع صرخاتها واستغاثاتها وهي تموت أمام عيني، دون أن أستطيع أن أقدّم لها شيئاً، فهي كانت الضحيّة الأولى لهذا المرض الخبيث الذي أصابنا». أمّا الشابّ شفان البالغ من العمر (16) سنة، فقد اكتشف مرضه بعد وفاة أخته مباشرة، وأصابه في كليتيه، ففقد سمعه وإحدى عينيه، يقف أمامك الآن كجثّة هامدة، يتأمّلك بأسى ووجوم وأنت تكلمه، دون أن يفهم ممّا تقوله شيئاً. ولسان حاله يقول: «هل من مسعفٍ..؟! هل من مغيثٍ..؟!». وكذلك هناك الطفل الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بشّار محمّد عمر، الصغير القريب إلى قلوب الجميع، تنظر إليه، لكنّك لا تستطيع التدقيق في ملامحه كثيراً، لأنّك توقن أنّ هذا الطفل البريء قد يكون لقمة للموت بعد بضع سنين. بحسب أعراض المرض القاتل. ما إن يبلغ أفراد هذه العائلة عمراً معيّناً حتّى يبدأ المرض المسمَّى طبّيّاً (داء ألبورت) باجتياح أبدانهم. وهذا المرض هو مرض وراثيّ يصيب غالباً الأطفال الذكور، ويتمظهر ببلية دموية ثمّ نقص في السمع واضطرابات في الرؤية، حيث لا يوجد علاج شافٍ لهذه الحالات، إنّما الهدف من المعالجة هو ضبط اختلاجات المريض، والسيطرة على أعراضه، كفقر الدم، وارتفاع الضغط، وفي المراحل النهائيّة يلجأ العلاج إلى الديلزا الدمويّة، أو زرع الكلية كعلاج استبداليّ، كما في حالة هذه العائلة.
هذا وجه آخر من وجوه حياة المواطنين السوريين، الذين يرزح الكثير منهم تحت وطأة الفقر وتدني مستوى الرعاية الصحية، فلم يعودوا يعبؤون كثيراً أو قليلاً بالتصريحات الحكومية التي تعدهم بالازدهار والرفاه... والمستقبل الجميل.