مطبات: الفساد... قطاع عام
كان الموظف طبقة، وكان الزواج من موظف حلماً يخالج بنات أيام زمان، في المقابل كانت الموظفة وما زالت طموحاً لمن يريد بناء بيت مستقر وأولاد.
كذلك كان المعلم، والمهندس، وصولاً إلى المستخدم في الدوائر الحكومية، المؤسسات، ديوان القضاء، البلديات، النواطير... حلماً للاستقرار، أزواجاً من ذهب.
كانت المؤسسات، المصانع، المعامل، بيوتاً دافئة، وملاجئ للقادمين من العدم إلى الحياة، وكذلك المفردات التي تباهى بها الملتجئون إلى الحوافز، مسابقات العمل، أبطال الإنتاج، العمل الإضافي، التقاعد على قلته ضمانة الأيام الأخيرة من الرسالة.
الأميون على طول الوطن، أبناء الأرض الفقيرة بعطائها، وضعوا رهانهم، كامل بيضهم في سلة العلم، العلم الذي ينتج الموظف بكامل أناقته، واحترامه، بكامل راتبه آخر الشهر، حيث الأوراق المالية، مساعدة الأسرة، التباهي الذي سيرفع رأس العائلة الصغيرة إلى مصاف العائلات التي تتناولها الجلسات والسهرات، الطبيب سيضع على جدار العيادة الاسم الثلاثي، الأب باسمه المضيء في منتصف اللوحة، دلالة على العائلة وعرفاناً بالجميل.
في المدرسة، ينادي الأستاذ ابن (الآذن) بتحية العلم، يصطف التلاميذ مرددين خلفه الشعار والنشيد، مزهواً بعودته أستاذاً، العلم الذي يتباهى، الآذن العجوز بأنه أب الأستاذ، يمضي خلف ذكرياته، الإهانات التي لحقت به صارت مجرد ماض، سقطت دفعة واحدة كل سنوات الشقاء، الاستيقاظ المبكر، شطف دورات المياه، الحزن الذي خلف بريق عيون الطفل.. الطفل الذي صار أستاذاً.
اليوم... لم تتغير أحلام البسطاء، بالضرورة لن يلد الموظف الصغير رأسمالياً كبيراً، إلا إذا كان فاسداً كبيراً، المزارع لن يلد إمبراطوراً لتجارة الحشيش، الصياد لن يلد صاحب أسطول بحري، فالأحلام لا تزيد إلا باستثناءات لها ضريبة.
اليوم.. المعامل القديمة الدافئة، صارت باردة في آب، كبريات الشركات تعلن يوماً تلو آخر الخسارات، شركات تفلس، توزع حتى اللحظة عامليها لشركات تكاد تهوي، وهكذا تندفع شركة وراء أختها في اتجاه النهايات، شركات منذ أشهر ومع تدخل الدولة لم تستطع دفع رواتب عمالها... سقط الحلم بضربة قاضية.
الأستاذ رجب، ومنذ سنوات ليست بالقليلة يعمل بعد الظهر في ورشة، أبوهاني أستاذ الابتدائية مساعد طيان مع تلميذه المعلم في مهنته، والموظف العتيد يبيع اليانصيب في البرامكة كعمل ثان بعد أن أنّت أسرته تحت وطأة الحاجة وتراكم الديون، وصار دواء السكر القاتل الناعم بالكاد يستطيع تأمينه بعد أن منع جاره الصيدلي بيع الدواء بالدين.
الطبقة التي كانت طبقة تلاشت إلى الأدنى، طبقة صارت من اللاهثين وراء لقمة العيش دون لقب، الأستاذ يريحه لقب (معلم) ليس كما تصورناه قديساً، الموظف يرضى بأن يكنى بما أراد من يدفع له أكثر، الموظف صار طبقة من المرتشين، طبقة تعيق عمل الناس، معاملاته.. فقط لمجرد بقشيش، إكرامية، سمها ما شئت... رشوة.
لم تكتف الطبقة بالانقراض، بالتحول إلى شريحة أدنى، صارت طبقة من النادمين، من لعَنة العلم، الحانقين على الشهادات، الأخلاق، المبادئ، ترى ما الذي صنعه لهم العلم الذي أفنى نصف أعمارهم، الحياة الكريمة التي أرادوها لم تجعل الأبناء يرثون سوى الديون، وتورثهم اللعنات، ستتذكرهم الأجيال التي تربت على الحداثة بكثير من الضحك، سيتذكرهم الأبناء الذين يؤمنون بالفهلوية على أنهم مجموعة من الحمقى... في أبسط النعوت كانوا جيلاً من المساكين.
كيف إذاً صار الحلم أضحوكة، كيف صار الأمل مجرد غباء أو لحظة حمق سيدفع جيل وطبقات ثمناً غالياً لهذا الأمل، كيف تصير الوظيفة وكراً للارتزاق، والمعلم صاحب الرسالة تاجر علم، أو عاملاً في مهنة مهينة بعد الدرس، العامل خلف آلته صار آلة مثلها، إن عملت أو لم تعمل سيان، بل من الأفضل ألا تعمل، والمعامل مجرد بيوت لنهاية الدوام يسكنها الخراب.
السنوات التي مرت، غيرت فينا الكثير، رمت خلفنا الطيبة التي صارت سذاجة، الحلم صار كابوساً، الأمانة تخلف، المنصب مكسب، فرصة. العلم درس خاص، الشعارات كلام فارغ.
السنوات التي مرت لم تكن هينة، السنوات الكبيسة، ارتكبنا الفواحش بحق أرزاقنا، أرضنا، مياهنا، معاملنا، مدارسنا، الآن نسترخي فوق كومة من الذكريات.. الفساد العام.