مطبات: في موت الفقير

مات عبد الرحمن الطرابلسي بعد أن هرس رأسه الصغير باب الحديقة الثقيل، مات عبد الرحمن الذاهب إلى الأرجوحة التي لم يجدها، لكنه الآن ممدد في متر واحد في مقبرة الفقراء بـ(سيدي مقداد) يلعب مع الملائكة حيث لا يوجد عامل مهمل أو رئيس بلدية غائب.

في الصباح المشؤوم حيث الأقدار تأخذنا إلى المجهول، في الصباح الذي يخبّئ بين ساعاته مصائرنا، في الصباح الفقير لا يذهب الفقراء إلى الوسائد الوثيرة في فندق (خمس نجوم)، ولا يعدون الفطور في (التراسات)، ولا يخططون لعطلتهم مثلما يستعدون لزفاف أو كرنفال، وحدهم الفقراء تخطط لهم الأقدار خطوات الذهاب إلى الموت فرادى أو جماعات على طريق سريعة معدة للنهايات الوحشية، ربما يعود العامل والزوج والطالب، والبنت، والمدرسة إلى نعوشهم بلا رأس أو جثة.

ذلك اليوم، ودّع الطفل من يحب بقبلات دافئة، الشمس أغرته بالخروج، وأغرت أبويه بيوم دون مدفأة تقضي على ما تبقى من مازوت مدعوم، فالشمس حلم مجاني للذين يشتهون الدفء دون انتظار أو دعم أو طابور.

خرج عبد الرحمن إلى موته بكيس من (الشيبس)، خمس ليرات تكفي لكي يقضي مشواراً مشمساً، لكن الأقدار التي هيأها الباب الثقيل قاده للموت.. هل كان يدري أن روحه ستمضي تحت الباب المتروك لدفعة يد صغيرة، هل كان عبد الرحمن قرباناً ليصير الباب باباً لحديقة يلعب فيها الصغار دون عبد الرحمن، أو بظل روحه.

في الطريق إلى موته المقدس لم يجد الجسد الصغير من يعينه على خروج الروح دون ألم، المشفى الخاص المعد لجمع الأموال من جيوب الناس رفض معاينة الجسد المتهالك، إمكانيات المشفى الذي من المؤكد أن دعاية إنشائه كلفت إدارته ثمن جهاز حديث كان من الممكن أن يريح الجسد أو ينقذه، لكنها حمى الركض وراء الحسابات الجارية، حمى جمع الأرصدة والمباهاة بحجمها، المشفى ركل الجثة الرخيصة إلى سيارة أجرة عابرة.

في الطريق مات عبد الرحمن بسيارة أجرة.. ترى ماذا كانت تقول روحه لنا، رئيس البلدية الغائب، العامل الذي أسند الباب على الجدار وهرب إلى بيته، المشفى الذي لا قلب له، هل كانت تلعننا، هل كانت تتذكر ملمس حبات البطاطا في كيس الشيبس، أم حلم أرجوحة في يوم مشمس مجاني.

ستدعو الأم في ليلها على (من كان السبب)، ستبكي وهي تتذكر خطواته الصغيرة، حلمها برجولته، ضحكاته الموزعة على جدران البيت، أول مرة نادت عليها الجارة: يا أم عبد الرحمن، جلوسه الطويل في حضن جدته، شعره الناعم، وستندم... كيف أغرتها الشمس، كيف خدعها الدفء المجاني، وتبتهل بإيمان الفقراء.. وتدعو عليهم.. علينا.. وعلى الدفء.

هنا.. يموت الفقراء على طريقتهم، اغتصاب مهووس، سقوط في (ريكار)، الموت بسبب النهي العصبي الناتج عن فعل مناف للحشمة، انتحار على الطريقة الحلبية، قتل في منتصف الليل على طريق مقطوعة من أجل  300 ليرة، موت بجرعة حبوب مخدرة، حبوب البالتان، تدهور بسبب دراجة تمنعها الشرطة وتبيعها المحلات كالفلافل، جلطة بسبب هدم منزل مخالف أخذت البلدية حصتها ثم هدمته ورشة مركزية من المحافظة، حادث مروع بسبب تحويلة ليلية أدت لاصطدام بولمان حديث مع شاحنة طويلة، ضربة شمس في انتظار سرفيس، سكتة دماغية بسبب تدافع على أحد الطوابير، الطوابير فلسفة الانتظار الجديدة من أجل دعم المازوت، على الكازية، الشيكات، المصارف، المسح الاجتماعي، التقدم لمسابقة المدرسين.. إلى نهاية هذا الأنين الطويل، بانتظار شمس ليست مخادعة.

موت عبد الرحمن في أعناقنا حتى يذهب المتسببون به إلى حسابهم، إلى ليلهم وحدهم، بعد أن خدعت الشمس الدافئة جسد الطفل وقادته إلى أرجوحة الموت.

آخر تعديل على الأحد, 31 تموز/يوليو 2016 20:53