الإصلاح الإداري حين يضل الطريق..
كان إصلاح الإدارات العامة في الدولة ولا يزال، في رأس سلم أولويات الحكومة السورية الحالية، ويبدو أن مخططي عملية الإصلاح المعقدة تلك، استنتجوا بعد الدراسة المعمقة أن السبب الأساسي للمشكلات المزمنة التي تعتري إدارات الدولة، من فساد وهدر وبيروقراطية، هو تسيب الموظفين وعدم التزامهم بساعات الدوام الرسمي. ولذلك اتخذت هذه الحكومة العديد من الإجراءات والقرارات التي تهدف إلى ضبط الموظفين، وكان إلغاء الإجازات الساعية بقرار من رئاسة مجلس الوزراء، واحداً من أبرز هذه الإجراءات.
بداية لا بد من القول أن هذا القرار الذي أخذ نصيبه من النقاش وقت صدوره، فيه مخالفة صريحة للفقرة (د) من المادة (44) من نظام العاملين الأساسي في الدولة، التي منحت الموظفين الحق في الإجازات الساعية، على أن يتم تنفيذ هذه الفقرة وفق تعليمات رئاسة مجلس الوزراء. والمعروف أن القانون الصادر عن السلطة التشريعية، أعلى من أي قرار تتخذه السلطة التنفيذية، وإن أي قرار يصدر عن هذه الأخيرة بما يخالف النص التشريعي يعتبر باطلاً.
وبعيداً عن هذا التجاهل للقانون ومفاهيمه الأساسية، يحق لنا أن نتساءل بعد مرور عدة أعوام على صدور هذا القرار، ترى هل ساهم في الحد من تسيب الموظفين في الإدارات العامة؟
تتلخص مبررات هذا القرار في أن بعض الموظفين كانوا يتخذون من الإجازات الساعية أثناء الدوام الرسمي، وسيلةً للتسيب وترك مواقع عملهم، مما يعرقل عمل «الأخوة المواطنين»، ويهدر وقتهم ووقت الإدارة العامة. ولكن الواقع يقول بأن جميع الموظفين بحاجة ماسة لمغادرة العمل أثناء الدوام الرسمي من حين لآخر، إما لإتمام معاملاتهم لدى إدارات الدولة الأخرى، أو لدفع فواتير لهاتف، أو لتسجيل أبنائهم في المدارس، أو ..أو .. أو غيرها من عشرات الأعمال التي لا يمكن إنجازها إلا خلال ساعات الدوام الرسمي. وبديهي أن إجازاتهم الإدارية المحددة في القانون لن تكفي للقيام بهذا المهام، فضلاً عن أن من حق الموظف استعمال إجازاته تلك للراحة أو السفر أو غير ذلك. وفوق هذا يمكن أن يضطر الموظف للمغادرة بشكل مفاجئ لأي أمر عائلي طارئ أو غيره.
وهكذا وجد الموظفون أنفسهم في مواجهة قرار جائر يحرمهم من أبسط حقوقهم، وكان لا بد لهم من إيجاد حلول، منها الحصول على مهمات رسمية وهمية، ومنها مغادرة العمل دون إذن رسمي، لأن الموظف سيغادر عمله حكماً لحل مشكلاته تلك، سواء كان ذلك بإذن رسمي أو بغيره، بمعنى أن عمل الأخوة المواطنين سيكون عرضة للتأخير والعرقلة في كل الأحوال. وكل ما أضافه هذا القرار إلى الواقع المتردي في الإدارات، كان مغادرة الموظفين لعملهم بشكل غير قانوني، بدل أن يغادروه في ظل القانون، وهو ما رفع من نسبة الفوضى والتسيب، ولم يغير شيئاً من مستوى أداء الإدارات العامة لمهامها.
وظهرت مشكلة جديدة فوق ذلك، تتعلق بأولئك الموظفين الذين لا يقدرون على الحصول على مهمة رسمية لمواجهات الحالات الطارئة، لأسباب شتى أبرزها مزاجية رؤسائهم المباشرين في توقيع تلك المهمات، فأصبحوا في مواجهة مشكلات يعجزون عن حلها بشكل قانوني، وعرضة للعقوبات الظالمة من رؤسائهم إذا هم اضطروا للمغادرة لسبب طارئ.
إذاً بدل أن تعمل الحكومة على حل مشكلة تسيب الموظفين، من خلال العودة إلى جذر المشكلة الذي يتمثل في انخفاض مستوى الأجور، والفساد الكبير قبل الصغير، وعدم التنسيق والتنظيم الجيد لعمل الإدارات، اتجهت إلى حل المشكلة بمشكلة أخرى، فيها خروج على المشروعية من جهة، وتجاهل لسبب المشكلة الأساسي من جهة أخرى.
يكون حل المشكلات بمعالجة أسبابها، لا بمحاولة محاصرة نتائجها التي ستكون محاولة فاشلة دون شك، لأن نتائج أي خلل ستظهر دائماً وبأشكال متعددة، طالما بقي الخلل قائماً. فإذا كان لدى الحكومة السورية نية جدية لحل مشكلة التسيب بين الموظفين، فإن عليها أن تكف عن هذه المحاولات التجميلية المحكوم عليها بالفشل، وأن تتجه مباشرة إلى أصل المشكلة لمعالجتها كجزء من عملية الإصلاح الشامل المفترضة.