اللقمة الحلال!
رغم الفساد الذي يشوب مجتمعاتنا، ورغم الانحلال الثقافي والاقتصادي والأخلاقي الذي بدأنا نغوص فيه، رغم كل ذلك، لا يزال لشرائح من المجتمع قواعد ومبادئ وأسس تحكمها، لا يتنازلون عنها قيد أنملة، يعتزون بها ويفاخرون، ويدعون إلى تطبيقها والتزامها، وهذه الأسس التي أذكر ربما تدعو البعض إلى الاستهزاء والسخرية.
من ذلك ما يطلق عليه مجازاً بـ«اللقمة الحلال»!، وهذا يعني ببساطة أني: «لن أطعم أولادي وعيالي إلا من مال اكتسبته بطريق شرعية حلال».
هذا المبدأ ـ كما قدمت لحضراتكم ـ هو محط سخرية الموظفين الصغار، ومدار إنكار الموظفين المتوسطين، وجريمة فظيعة شنعاء بالنسبة للموظفين الكبار.
بل بالنسبة لهؤلاء «كل ما يدخل جيبي حلال، وإن لم يكن كذلك فدخوله جيبي يكسبه الحلال».. وصدقوني: هذا لم نعد نراه غريباً، لا بل لم يعد أحد يكتب فيه ولا ينكره، فلكل الحق في الفكر والنظر والكسب بأية طريقة شاء ودون رقابة رقيب ولا نظر حسيب.
وهو ليس نقطة بحثي، بل كغيري اعتادته عيوني وآذاني، خلا أن نقطة البحث اليوم، كيف صار البعض يرى «اللقمة الحلال»؟ وإليك البيان:
أوقف شرطي صديقاً لي، وطلب الأوراق.. هم بتحرير المخالفة.. بادر صديقي بلغة طيبة وابتسامة رقيقة، ثم أتبعها بطلب الرحمة.. وشرطينا مصمم على المضي فيما عزم عليه، وطبعاً بعد الارتفاع المحلي بأسعار المخالفات ـ والتي ستدخل قريباً في البورصة السوريةـ كان لابد لصاحبنا من تفادي تلك المخالفة، فأظهر للشرطي ورقة من فئة الـ/500/ ليرة، فما كان من الأخير إلا أن ثارت ثائرته، فأزبد وأرغد وأرعد، ففهم صاحبنا منه أخيراً أنه لا يأكل الحرام! فارتد إلى سيارته واستسلم لقضاء الشرطي مكبراً فيه عزته ومبدأه.
إلا أن الشرطي ارتد وراءه راجعاً، يقول: يا سيدي! تربينا على «اللقمة الحلال»، ونريد أن نربي أبناءنا على «اللقمة الحلال»، وزاد وأعاد...
يقول صاحبنا في نفسه ليتني ما عرضت عليه، لقد لقنني درساً في الأخلاق، لن أنساه ما حييت!
غير أن الشرطي أنهى حديثه بما يلي: يا سيدي! إن كان هذا المال قد جادت به نفسك زكياً... لكن لا بهذه الفصحى قال، بل قال: «خيو إذا هالـ/500/ طالعة من نفسك» فأني سأعتبرها «لقمة حلال»، وخطفها سريعاً من يد صاحبنا، وصاحبنا مدهوش مصعوق، لم يدر كيف يمضي بسيارته وقد اختلطت لديه المفاهيم، بل انقلبت الساعة الرملية دون أن تنقلب، فالرمال تصعد من أسفل إلى علٍ!
والشرائح التي ابتدأت بها مقالتي، وهي البقية الباقية من الخير والصلاح، بدأت تتقلص، لا بالعدد ولكن بالفهم!
كلام لا أقصد منه التشاؤم والتقريع، بل أضع إبرة الفرجار فاتحاً الزاوية إلى أقصى حد لها، عازماً على العودة بالدائرة إلى النقطة التي بدأت منها، فالفهم السليم لابد أن يبقى سليماً، و«اللقمة الحلال» لن يتغير طعمها مهما بهروها.
واللقمة في فيكم سادتي! آمل أن تكون «لقمة حلال» و«صحتين على قلب الشرطي» يقول صاحبي..
محمد عصام زغلول