رسالة اليرموك: «كان منيح».. «لأ ما كان منيح خيّا»!
بعيداً قدر الإمكان عن الحرب ودورتها المميتة، التفّ الكهول الأربعة حول طاولة صغيرة أمام منزل مهترئ في واحدة من الحارات الصغيرة في مخيم اليرموك. الشيب الذي غزا رأس من لم يصلع فيهم لم يمنع عن هؤلاء الشيوخ أن تأخذهم حماسة الحديث إلى حدّ السباب والشتائم في مشهدٍ يذكّر بأحاديث المراهقين الخارجين لتوهم إلى الحياة. تسللتُ إلى حديثهم، كمستمع لا كمتكلم.
«الله يرحم أيام المخيم قديش كان منيح»، هذه الجملة التي أطلقها أحد المسنين بتنهّد عميق، كانت كافية لإشعال فتيل نقاش حاد لا ينتهي، خصوصاً بعد أن استرسل المسنّ في تذكّر الومضات المضيئة من صور المخيم ما قبل الحرب. وقد استفز الحديث برمته أحد الحاضرين ليرد: «لأ ما كان منيح خيا، هاي البيوت الزبالة يلي عايشين فيها شغلة منيحة؟ الوقفة عند دوار فلسطين ساعة كاملة ليجي المكرو شغلة منيحة؟ صحيح سوق الخضرة كان رخيص، بس بتتذكروا قديش كنا نسب ع العجقة يلي يعملها؟»، يقلّب نظره في وجوه الجميع، ويعاود: «وأنت، وأنت، وأنت، بتتذكروا قديش نسوانكن كانوا يدعوا الله يخلصنا من هالعيشة؟».
كان الحديث استفزازياً جداً بالنسبة لي، فبالفعل، قفزت إلى ذاكرتي مئات الصور التي تؤكد أن المخيم، حاله حال العشوائيات كلها، لم يكن يعجب سكانه يوماً. الجميع، الجميع بلا استثناء، بهذا القدر أو ذاك، كان لديه حلم بمغادرة المخيم إلى مكانٍ أكثر تخديماً في قلب العاصمة.
لم يكن لأحد الحاضرين أن يردّ على كلام الرجل الذي استفزه التغني بحال المخيم ما قبل الحرب. لم يدم احتدام الحديث طويلاً حتى اتفق الجميع على أن «لا العيشة هلق، ولا العيشة قبل الحرب كانت منيحة بالمخيم». ورغم هذا الاتفاق الجماعي، إلا أن سؤالاً قد بقي عالقاً على ألسنة الجميع: « إذن، إلى ماذا موجه هذا الحنين الذي نشعر به؟».
كان أحد الشباب المنضمين إلى الحديث أكثر شجاعة مني، شرع يقول، وكأنه يفنّد أسباب الحنين الذي يشعر به جمع الكهول الجالس في مخيم ما بعد الحرب: «العيشة ما كانت عاجبتنا، واليوم مش عاجبتنا، يمكن نحنا مشتاقين للناس يلي طلعو من المخيم، بس هاد ما بيمنع إنو نحنا وهدول الناس يلي طلعو من المخيم بدنا عيشة أحسن».. صرخ الكهل الذي كان معترضاً في بداية الحديث: «عفارم على ربك خيا»..!
ابن اليرموك