حلقات التآمر تتكامل لإنهاء الشركة العامة للأسمدة..
لم يعد سراً الخلل الكبير القائم في الشركات والمؤسسات والوزارات، وبات واضحاً أن الفساد والهدر والسمسرة والعمولات، أصبحت أموراً مشرعنة على حساب مؤسسات إنتاجية أُنشئت لتقوم بدورها في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكنها ما لبثت أن تعرضت منذ إنشائها إلى نهب منظم من مدراء وتجار وجِهات قائمة على رعايتها، ثم جاءت الضربة القاضية لأبرز هذه المؤسسات ليس بالخصخصة أو الاستثمار فقط، بل ومن خلال خطط وقرارات تبدو مرتجلة، بينما هي في الحقيقة تمارس عن سابق قصد وتصميم.
الأهمية الاقتصادية لشركة الأسمدة
إن تحقيق قيمة مضافة على المواد المستخرجة محلياً مثل الفوسفات الخام والغاز الطبيعي، لا يتم إلا عبر الشركة العامة للأسمدة. وكذلك إقامة صناعة حقيقية في هذا المجال لا يمكن أن تتم إلا باستخدام المنتجات الثانوية لهذه الشركة، أما من الناحية الزراعية فإننا ندرك أهمية الشركة في توفير مستلزمات الفلاحين من الأسمدة لتأمين الأمن الغذائي. ولكنها عانت منذ عام 1980 من الهدر والفساد وتدني الإنتاج وسوء الإدارة، وصرف الكثير من الأموال على قطع الغيار المتراكمة في المستودعات، وعلى مشاريع وهمية، لتذهب هذه الأموال إلى جيوب الفاسدين وتزيد من نفوذهم وسلطتهم. وقد شهدت التغيرات الإنتاجية للشركة أربع مراحل:
ـ المرحلة الأولى من عام 1980 حتى عام 2000، وطُبِعت هذه المرحلة بخسارة إجمالية تقدر بحدود ستة مليارات ل.س، وغلب عليها شح المعلومات حول الشركة بسبب تكتم إدارتها عن مجريات الحركة الإنتاجية ونسبة تنفيذ المخطط منها.
ـ المرحلة الثانية من عام 2000 حتى عام 2002 حيث تسلم حقيبة وزارة الصناعة أحد ذوي الخبرة العملية والعلمية في هذا المجال، فقام باختيار مدير عام للشركة، بعيداً عن الطرق التقليدية المتبعة بترشيحٍ من الجهات الوصائية التي أفرزت الفساد، فقام المدير الجديد بتغييرات إدارية كبيرة شملت جميع مفاصل الشركة من مدراء ورؤساء أقسام فنية وإنتاجية، وبدأ ظهور تطور ملحوظ في الشركة، وتحسنت مؤشرات أدائها الاقتصادية بشكل كبير، وانخفض الهدر، وتم حل المشاكل الفنية والإنتاجية بالخبرات المحلية، وألغيت الكثير من المشاريع والمناقصات التي كانت الغاية منها صرف الأموال ونهبها، وانخفضت كلفة الإنتاج إلى 47% من سعر مبيعه للمصرف الزراعي، ولكن بذلك انقطعت أرزاق الفاسدين فسرعان ما تم إعفاء المدير من إدارة الشركة!
ـ المرحلة الثالثة من عام 2003 وحتى بداية 2009 إذ بعد إعفاء المدير وتسليم الإدارة لمدير جديد، قام الأخير بإبعاد الخبرات الفاعلة عن أماكن العمل الرئيسية، فتراجعت المؤشرات الاقتصادية لأداء الشركة، وهُدِمت جهود ما يزيد عن عامين ونصف لخيرة مهندسي وفنيي وعمال الشركة. وفي زيارة وزير الصناعة الحالي إلى الشركة قال حرفياً: «أوقفوا الخسارات في هذه الشركة، أوقفوا هذا الخراب، نعم يوجد فساد في ترسية العقود». وكانت الخسارة كبيرة، ففي 45 يوماً خسرت الشركة 300 مليون ل.س.
الآن وبعد ما يزيد عن خمس سنوات من التخريب والهدر والتزوير والمناقصات المعضلة تحركت الجهات الوصائية فقامت بعزل المدير العام بعد إدانته وإدارته من قبل التفتيش بعشرات الملايين، وقامت وزارة المالية بالحجز على أمواله المنقولة وغير المنقولة. غير أن بقية المدراء المتعاونين معه على التخريب وسرقة الأموال العامة في الشركة ظلوا في مواقعهم، وكبرت الفضائح، فاضطرت الجهات الوصائية إلى عزلهم من مناصبهم مع المحافظة عليهم في الشركة. وإن ما أدينت به هذه الإدارة لا يشكل إلا جزءاً لا يذكر مما هدر ونهب من الأموال العامة، علماً أن هناك قرارات تفتيشية نامت في أدراج بعض المتنفذين.
والسؤال الهام: ألم تتنبه الجهات الوصائية إلى الفساد والهدر إلا بعد خمس سنوات من التخريب؟! علماً أنها كانت تمتلك كل البيانات وتقوم بتقييم وضع الشركة يومياً، فهل هناك من يتستر على الفساد والنهب لأنه يحقق له مصالح خاصة؟!
لاشك أن العديدين من المتبوئين مواقع هامة في هذه الجهات إما لا يمتلكون الخبرة لتقييم وضع الشركات العامة، أو كانوا يدفعون بعض الإدارات لممارسة النهب والتخريب خدمة لمصالحهم ومصالح شركائهم من التجار والسماسرة والوكلاء، لأن الجهات الوصائية تعتبر المسؤول الرئيسي عن تضليل أصحاب القرار، وعن نهب وتخريب هذه الشركة وشركات أخرى ووقف تطورها، وضياع الوقت والجهد، وهدر مئات الملايين من الليرات، وآلاف الأطنان من المواد الأولية والمساعدة، وتلويث البيئة ونشر ثقافة الفساد. ورغم ذلك فإن هذه الحلقة لم تُفضح ولم تُعاقَب، وهذا هو الأخطر!
ـ المرحلة الرابعة من بداية عام 2009 وحتى الآن: وفي هذه المرحلة أصبح الفساد مقونناً ومشرعناً علناً وليس من قبل مدراء فقط، وإنما من جهات أعلى، تنفيذاً لما قاله مديرٌ سابق للشركة: «الشركة العامة للأسمدة هي المصباح السحري للفاسدين لتحقيق الثراء الفاحش، ومقبرة لأصحاب الضمائر».
نهب علني بمذكرات رسمية
تم توجيه كتاب من وزير الزراعة والإصلاح الزراعي إلى رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 23/7/2009 يطلب فيه تأمين السيولة المالية اللازمة والمقدرة بـ5 مليارات ل.س لفتح الاعتمادات المستندية لرصيد التعاقدات من الأسمدة الآزوتية والفوسفاتية، لزوم خطة الموسم الشتوي لموسم 2008 ـ 2009، ويقول: «إن التأخير في تأمين هذه السيولة يتسبب في عدم وصول الأسمدة اللازمة في الموعد المناسب، ما ينعكس سلباً على توفير مستلزمات الإنتاج الضرورية لتنفيذ أهداف الخطة الزراعية».
وقد رد مدير عام الشركة بكتاب إلى المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية يقول: «بخصوص طلب الوزير 5 مليارات ل.س نبين ما يلي: قامت شركة الأسمدة بالإيفاء بالتزاماتها للموسم الشتوي 2008 ـ 2009 وهي: 70000 طن سماد فوسفاتي، 100000 طن سماد يوريا، 55000 طن سماد كالنترو، باستثناء سماد البوتاس كون الشركة لا تقوم بإنتاجه. أما بالنسبة لاحتياج القطر من الأسمدة الآزوتية والفوسفاتية، بما فيها سماد البوتاس والتي تم إقرارها في وزارة الزراعة لأهداف الخطة الإنتاجية الزراعية، فقد تم إقرار هذه الكميات قبل قرار تحرير أسعار الأسمدة، وبالتالي فأن المبالغ والكميات اللازمة لسد حاجة القطر للموسم الشتوي يعود تقديرها حالياً لوزارة الزراعة على ضوء المخزون الحالي في المصرف وحركة الطلب من قبل المزارعين.
وبالنسبة للإعلان عن الكميات الموصى باستيرادها للموسم الزراعي 2009 ـ 2010 فإنه، وبعد تحرير أسعار الأسمدة والسماح للقطاع الخاص بالاستيراد، يرتبط بمدى إمكانية تصريف الأسمدة المنتجة محلياً وانعكاس سعر الأسمدة التي سوف تورد للمصرف الزراعي، على سعر مبيع الأسمدة للمزارعين، بوجود منافسة للقطاع الخاص، علماً أن التزامات الشركة العامة للأسمدة للموسم الشتوي 2009 ـ 2010 هي كما يلي: 55000 طن سماد كالنترو، 10000 طن يوريا، 1050000 طن فوسفاتي».
مدير عام الشركة يقول: «فوجئنا برفع أسعار الأسمدة والغاز والفوسفات والسماد الفوسفاتي والكبريتي، والأمونيا والغاز هي المواد الأولية وتحتاج إلى مليون و250 م3، وهذا يعني رفع التكلفة كل يوم 10 ملايين ل.س ثمن غاز، المرحلة صعبة بعد تحرير سعر الأسمدة، المصرف الزراعي بدأ يتراجع عن استجرار الإنتاج وإنتاجنا محصور به ويقول إن المستودعات مليئة بالأسمدة، وإن في مستودعاته 16 ألف طن سماد يوريا، ولا شك أن المخزون يتأثر بالعوامل الطبيعية لأنه متراكم بطريقة غير صحيحة، لا نستطيع بيع إنتاجنا المتراكم للمزارعين وإذا سُمِح لنا سوف نبيعه بسعر أقل، وقد جاءنا طلب لشراء كامل المخزون من قبل دولة شقيقة، ولا نستطيع البيع، وحالياً نحن نسد حاجة سورية بنسبة 60 ـ 65% والفوسفاتي نسده بالكامل. نقول للمصرف أن يستجر الإنتاج فيقول: «هناك باخرة تفرغ السماد للتجار». وبكل الأحوال إذا لم يأخذ المصرف الزراعي إنتاج الشركة فإن هناك كارثة قادمة.
هدف تخريبي للانفتاح
كانت محصلة الانفتاح والشراكات وتحرير الأسعار ورفع الدعم عن الفلاح، وتطوير الشركات الإستراتيجية، إغراق السوق السورية بالأسمدة من التجار وتحكمهم بالأسعار وإحكام الطوق على شركة الأسمدة بعدم بيع الإنتاج إلا للمصرف الزراعي حصراً، والمصرف الزراعي يمتنع ويتوقف عن الاستجرار والمستودعات مليئة، علماً أن المصرف يأخذ طن السماد بـ12 ألف ل.س ويبيعه للجمعيات بـ18 ألف ل.س، والجمعيات تأخذ عمولة أيضاً، والشركة على استعداد لبيع طن السماد مباشرة للفلاحين بـ13 ألف ل.س، ولكن لا يسمح لها من أجل إبقاء الحلقات الوسيطة للسمسرة والفساد. ثم ماذا يعني أن يطلب وزير الزراعة تخصيص مبلغ 5 مليارات ل.س لاستيراد الأسمدة والمستودعات مليئة في الشركة وفي المصرف الزراعي؟! وماذا يعني قول مدير المصرف الزراعي: «لا نستطيع استجرار إنتاج الشركة لأن الباخرة تفرغ السماد للتجار؟» وماذا يعني أن يكون سعر طن السماد في دول العالم 120 دولاراً، وفي سورية 300 دولار؟! وماذا يعني أن تطالب شركة الأسمدة بديونها من المصرف الزراعي، والتي تبلغ 1.5 مليار ل.س، ولا يلتزم المصرف بالدفع؟
كل الشبهات موجودة
قال وزير الزراعة في مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال إنه فيما يتعلق بموضوع بيع الأسمدة من خلال المصرف الزراعي كان يتم استيراد أكثر من 70% من حاجتنا للأسمدة من الخارج، وفقاً للخطط السابقة، وبتكاليف أكبر من تكاليف شركة الأسمدة، مشيراً إلى أن الآلية السابقة اعتمدت على حساب تثقيل أسعار السماد المستورد والسماد المنتج محلياً والمأخوذ بأسعار اقل من التكلفة، وبذلك كانت الشركة تخسر القيمة الحقيقية للسماد بسبب بيعه بسعر متوسط بين المستورد والمحلي. وقال إنه عندما اتُّخِذ قرار تحرير أسعار السماد كانت الوزارة متعاقدة على كميات كبيرة من الأسمدة في الموسم الماضي، وهذا العام تم تخفيض الاستيراد مبيناً أن الأسعار في المصرف هي أسعار تثقيلية وليست أسعاراً حقيقية «سعر الكلفة + هامش ربح» وحالياً تم الاتفاق مع وزارة الزراعة على تسويق كامل إنتاج الشركة من المصرف الزراعي، ولاحقاً ستنتقل مستودعات المصرف الزراعي إلى مؤسسة إكثار البذار التي ستقوم بدورها بتوزيع السماد. وتابع الوزير حديثه بالقول إنه خلال الأشهر الثلاثة القادمة سيعاد النظر بأسعار الأسمدة، وسيتم تحرير السعر بحيث تقوم مؤسسة إكثار البذار ببيع السماد بسعر الكلفة + هامش ربح 10% فقط، ولا علاقة لها بصندوق الدعم ولا بدعم الأسمدة، وبالوقت نفسه تبيع شركة الأسمدة إنتاجها بأسعار الكلفة + هامش ربح 10%، مشيراً إلى تراكم السماد في مستودعات الشركة بسبب عدم قدرة الوزارة على بيع الأسمدة الموجودة لديها نتيجة وجود أسعار أقل في السوق الحرة من قبل التجار، لافتاً إلى مصادر الفساد والهوامش الموضوعة على الاستيراد والتي كانت تعطي أكثر من 30% زيادة في الكلف عن السعر الحقيقي الموجود في السوق.
وأردف الوزير أن الوزارة سمحت للقطاع الخاص باستيراد الأسمدة في حين أنها ستستورد فقط الهامش بين حاجة الموسم من الأسمدة والمتوفر في الشركة الذي يغطي 75%، وتدريجياً ستنخفض هذه النسبة إلى 30%، بمعنى أن الدولة ستؤمن فقط 30% من حاجة السماد والباقي يؤمنه القطاع الخاص.
ما الذي خلف الأكمة؟
نقاط عديدة يمكن التعليق عليها، مدير عام شركة الأسمدة يقول إن الشركة تؤمن 60 ـ 65% من حاجة سورية للسماد، فلماذا إذاً استيراد أكثر من 70% بتكاليف أكبر من شركة الأسمدة؟ وماذا يعني توفر الأسمدة في السوق بأسعار أقل؟
لقد ساهم هذا النهج وهذا النموذج مكن الإدارات وحماتهم والمتسترين عليهم في رفع أسعار الأسمدة بشكل خيالي لتغطية زيادة الكلفة في الإنتاج والناتجة عن عمليات الهدر والسرقة والسمسرة كما ساهمت في إعطائه لمستوردي الأسمدة لرفع أسعارهم بشكل كبير.
هذه ضربة موجهة للشركة ولإنتاجها، وقد بدأ فعلاً مع نهاية هذا العام، لأن إنتاج الشركة يغطي الآن 65% من الحاجة، فهل سيتم اتخاذ قرار بإغلاق الشركة وتحويل أراضيها إلى مقاصف واستراحات، كما يحلم ويتمنى ويخطط وينفّذ الفريق الاقتصادي؟