ارتفاع معدلات الجريمة في المجتمع السوري: التردي الاقتصادي أولاً
شهدت معدلات الجريمة ارتفاعاً ملحوظاً في المجتمع السوري خلال السنوات الأخيرة، مما دفع العديد من المراقبين ورجال القانون إلى دق ناقوس الخطر، ومطالبة الجهات الرسمية بالعمل على الحد من تفاقم هذه الظاهرة، ليس من خلال ملاحقة مرتكبي الجرائم ومعاقبتهم فحسب، وإنما من خلال البحث في أسباب هذه الظاهرة ومحاولة معالجتها. والحقيقة إن ارتفاع معدلات الجريمة مؤخراً، لم يصبح ظاهرة واسعة الانتشار بشكل يهدد الأمن الاجتماعي في البلاد حتى الآن، ومع ذلك فإن هناك ارتفاعاً نسبياً في معدلات الجرائم لا يمكن إنكاره، ولا بدمن محاولات جدية لرصد أسبابه ومعالجتها، قبل يتحول إلى كارثة تهدد المجتمع السوري وتماسكه.
إن دراسة العوامل النفسية التي تدفع إلى ارتكاب الجرائم وتحليل الأوساط والظروف التي ينشأ فيها المجرمون، هو بحث نفسي اجتماعي غاية في التعقيد، وإذا كان صحيحاً أن ارتفاع أعداد السكان، وتعقيدات الحياة المعاصرة، وتراجع مستوى تماسك الأسرة، وربما ما يقوله البعض عن وجبات العنف المجاني المقدم عبر جهاز التلفاز، كلها ظواهر تؤثر في معدلات الجريمة، ولا بد من أخذها بعين الاعتبار، إلا أن الفقر المتجلي بتردي الحالة الاقتصادية للنسبة الكبرى من السكان، يقع دون شك، في مقدمة الأسباب التي تقف وراء ارتفاع معدلات الجريمة، ولا أدل على ذلك من أن أحزمة الفقر، هي المسرح الأبرز لأغلب الجرائم الفردية الحاصلة.
وباستعراض سريع للجرائم المرتكبة (بالمعنى الجنائي) مؤخراً في سورية، نجد أن أغلبها جرائم سرقة، أو جرائم قتل بدافع السرقة، وهذه يمكن اعتبارها مؤشراً على مستوى متقدم من تردي الأوضاع الاقتصادية لدى شرائح واسعة، وأثر هذا التردي على تماسك المجتمع السوري. وبالدرجة الثانية تأتي جرائم الاغتصاب، وما ينشأ عنها من جرائم انتقام وجرائم «شرف» كما يسميها القانون السوري. وهذه أيضاً ترتبط ارتباطاً مباشراً بتردي الأوضاع الاقتصادية، التي تضع العديد من الشباب الواقعين تحت رحمة البطالة والفقر، وغير القادرين على تأمين متطلبات الزواج، تحت ضغوط هائلة تخلف تشوهات نفسية تدفعهم إلى ارتكاب هذا النوع من الجرائم، وما قد ينشأ عنها من جرائم أخرى مرتبطة بها.
صحيح أنه لا يمكن حصر أسباب الجريمة، ووضع خطط لمعالجتها باختزال المسألة كلها في تردي الأوضاع الاقتصادية فقط، إلا أن التحليل البسيط الذي قدمناه من ارتباط أغلب الجرائم خلال السنوات الأخيرة بالفقر، يحمل في طياته دلالات لا يمكن تجاهلها. وإذا ما لاحظنا أن هذه السنوات الأخيرة التي ارتفعت فيها معدلات الجريمة، هي السنوات نفسها، التي شهدنا فيها تحولات في طبيعة الاقتصاد السوري، واتجاهاً محموماً للدخول في عالم اقتصاد السوق الذي لم يجلب سوى المزيد من التدهور الاقتصادي - الاجتماعي. وهي السنوات نفسها، التي شهدنا فيها عشرات المشاريع الحكومية لجذب الاستثمارات، ومكافحة البطالة ورفع مستوى المعيشة دون جدوى، فإن الصورة ستكتمل أمامنا. ويحق لنا عندها أن نقول إن الخطوة الأولى لمعالجة ظاهرة ارتفاع معدلات الجريمة، تتمثل في مراجعة السياسات الاقتصادية، والعمل الجدي على محاصرة الفقر في أحزمته التي تتوسع بشكل جنوني كخطوة على طريق محاولة إزالته نهائياً، وبعدها يأتي دور الدراسات النفسية والاجتماعية والأسرية، وأخيراً يأتي دور القانون المباشر في تحديد الجرائم وعقوباتها، ودور أجهزة الأمن والقضاء في تعقب المجرمين ومعاقبتهم.