الجامع مقفل والحكومة مرتاحة الحكومة (تطنِّش) دعم المازوت بسبب انعدام الأمطار
الأمطار الغزيرة والثلوج التي هطلت على مختلف المدن والمناطق في سورية خلال الأسبوع قبل الماضي، كانت سبباً هاماً حرَّك الانتباه إلى الحاجة الماسة للمازوت، وفجأة ازداد الطلب عليه بشكل كبير، وتهافتت أعداد كبيرة من المواطنين لشراء الكميات الضرورية التي تقيها برد ليالي الشتاء القاسية، وعاد منظر الطوابير الطويلة للمواطنين المتجمهرين أمام محطات الوقود ليتسيد اللوحة، وكلهم يحملون كالونات بحجوم مختلفة تتدرج من فئة العشرين ليتراً، نزولاً حتى كالون الخمسة ليترات، وبعضهم يحمل (طاسة المدفأة) فقط ليملأها.
صورة من شتاء مضى
هذا المنظر ذكرنا بصورة لن تمّحي من ذاكرتنا، وعشناها على مدى موسمين شتويين سابقين، حيث شاهدنا طوابير طويلة من المواطنين يتزاحمون أمام محطات الوقود للحصول على ليترات قليلة من المازوت يدفئون بها أطفالهم ليلة واحدة، وبعدها (بيفرجها الله)، وغالباً ما يعود الكثير منهم بخفي حنين، فيلف أطفاله بالبطانية وينامون باكراً. أما بالنسبة للسيارات، فالكثير منها، كبيرة وصغيرة، مع اتجاه السير وبعكسه، في أرتال عديدة، منتظمة مرة وعشوائية مرات كثيرة، وساعات طويلة من الانتظار الممل والمقرف، طمعاً بلترات قليلة من مازوت، تنسفح لأجله كرامات المواطنين بالجملة والمفرق، وليس هناك من اهتزت في مفرقه شعرة ممن يسكنون الأبراج العاجية وأصحاب القرارات الارتجالية، ولم يقضَّ مضجعهم شكوى وطن أو ألم مواطن، فسياسة القهر والتجويع تسير حسب ما يريدون، وينفذونها على مواطن اعتاد قهره، ولم يعد يشكو همه إلا إلى الله، لأن الشكوى لغيره مذلة إضافية.
استثناء عاجل
كانت الفترة الماطرة والمثلجة استثنائية قصيرة جداً، عاجلتنا بها السماء ثم انحسرت وعادت كما كانت، أياماً نهاراتها هاربة من صيف إلى أوان غير أوانها، مع أن لياليها قاسية البرودة، إلا أن هذا ما أعطى الحكومة حجة كبيرة وملائمة لتطنيش موضوع (إعادة توزيع الدعم إلى مستحقيه). وفي كل الأحوال فبعد هذه الفترة الطويلة من الانتظار والترقب، وبعد ما مضى من ليالي البرد القارس، فقد يئس المواطن السوري من حنان حكومته عليه، تلك الحكومة التي سحبت دورها الرعائي لمواطنها بشكل كامل، هذا المواطن الذي بدأ يعاني أزمة تلو أخرى، ووقف في ساحة الحياة، وحيداً مخذولاً مكشوف الظهر والحال معاً، فبدأ يبحث عن الحلول الفردية، واستعاض عن التدفئة بالمازوت باستخدام مدافئ الغاز، لتظهر أزمة جديدة تمثلت بفقدان اسطوانات الغاز من السوق المحلية، قد يكون سببها العوامل الجوية، وقد تكون لارتفاع الطلب، والأرجح أنها ستكون حجة للحكومة لرفع سعر اسطوانة الغاز في إضافة جديدة لأعباء الحياة المعيشية اليومية للمواطن السوري. إضافة إلى مشكلة أكبر وأخطر بدأت تظهر مع ترويج الحكومة لفكرة عدم منح الدعم للكثير من الأسر السورية، وهي مشكلة التعدي على الأحراج والاحتطاب الجائر الذي يقوم به الكثير من سكان الأرياف، لاستخدام الحطب للتدفئة، والوقاية من برد الليالي الظالمة.
لكل مشكلة حل.... فردي
حكومة التجويع والقهر، وفرض الضرائب والأتاوات الكثيرة التي لم يسمع بها أحد من قبل، ورفع الأسعار وخلق الأزمات المعيشية، الواحدة تلو الأخرى، جعلت المواطنين على مساحة سورية يبحثون عن البدائل، ويحلون أزماتهم بشكل فردي وإن كان خاطئاً، فلم يعد ذلك يهم، واتجه الكثير منهم إلى سرقة التيار الكهربائي لتشغيل (مدافئ الكهرباء)، واتجه قسم آخر للاعتداء على الغابات والأشجار والثروة الحراجية الغالية، وقاموا بقطع الأشجار لاستخدامها في مدافئ الحطب التي انتعش سوقها في هذه السنة بشكل كبير، ومنهم من عض على جرحه قليلاً واتجه لاستخدام مادة «الجفت» التي هي مخلفات الزيتون بعد عصره واستخلاص الزيت منه، وتصبح هذه المخلفات مادة سريعة الاشتعال وتعطي ديمومة اشتعال آمنة، وقد كانت معاصر الزيتون تعطي هذه المادة لمن يريدها دون مقابل، ولكنها الآن تبيعها بما لا يقل عن /2500/ ل.س للطن الواحد. وفي ظاهرة خطيرة فإضافة إلى (نابشي الحاويات) الذين اعتدنا على رؤيتهم بكل زوايا الوطن، أصبح الكثيرون من المواطنين يجمعون علب الكرتون من الحاويات لاستخدامها في التدفئة، أساليب تتقطع لها القلوب، يتَّبعها المواطن للحصول على الدفء، بعد أن منعت الدولة رعايتها له، ووقفت تتفرج كيف (سيدبر رأسه) مع انتهاء العام الأخير من الخطة الخمسية العاشرة المليئة (بالتنمية والتطوير والتحديث).
الحلول العرجاء
بين عامي 2008 و2009 قامت الحكومة السورية بإجراء مسح اجتماعي واقتصادي للأسر السورية، تحت شائعة تقديم راتب بطالة للأسر التي ليس لها دخل، وتبين فيما بعد أن هذا المسح الاجتماعي ليس إلا نظاماً جديداً لإتباع أسلوب المعونة الاجتماعية، أعدته وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لتطبيق المعونة الاجتماعية على الأسر السورية التي تستحق الدعم. ألا يكفي المواطن السوري قهراً وإذلالاً؟! هل تحولت سورية إلى جمعية خيرية تقدِّم المعونة للفقراء بالجملة، أسراً وعائلات؟! وهل تمكنت الوزارة من خلال المسح الاجتماعي تحديد العائلات المستحقة من غير المستحقة بواقعية وعدل وأمانة؟! وهل شمل المسح كافة المناطق والمحافظات السورية وعرف خصوصيات كل محافظة على حدة؟! لن نكون على يقين من شيء لأن نتائج المسح الاجتماعي لم يعلن عنها وبقيت طي الكتمان حتى الآن، ومن المؤكد أننا لن نعثر على قاعدة بيانات وشروط مدروسة بجدية وعناية، لأن هذا المسح كان عشوائياً وارتجالياً، وهناك مناطق واسعة تضم الغالبية المطلقة من المواطنين السوريين لم تسمع بهذا المسح ولم يطرق بابها أحد، إنها أحزمة الفقر التي تحيط عدداً من المدن الكبيرة والمحافظات، وخاصة العاصمة وريفها.
المستحقون يتحدثون
من أمام إحدى محطات الوقود وقفنا نحاور الباحثين عن الدفء، وكان معظمهم يأتون مساء بعد انتهاء يومٍ شاقٍ من العمل، وبعد الحصول على ثمن الدفء الذي كان في الغالب عبوة من خمسة ليترات، أو حتى (طاسة المدفأة) بذاتها، يحملها المواطن ليملأها ويدفئ أطفاله بها اليوم، و(لبكرة بيفرجها الله). وكان لكثير من مستحقي الدفء التصريحات التالية:
ـ المواطن عدنان ج. قال: «الحكومة لم تقرر الدعم بعد، وقد لا يكون هناك دعم نهائياً هذه السنة، والراتب لا يكفي لمصروف عشرة أيام للأكل والشرب فقط، والأولاد بردانين، والبرد ظالم مثل الجوع، فما العمل؟! وما الحل؟! وكيف سنتدبر أمورنا؟ فإذا كنا نحن الكبار نحتمل البرد ونصبر، فهل يحتمله أطفالنا الصغار؟!».
ـ المواطن حسن ع. الموظف الذي يركض دوامين ولا يلحق، قال: «إذا أصرت الحكومة على تأخير قرار الدعم أكثر، أو لم تصل إلى آلية ناجحة وجيدة وعادلة لإيصال الدعم لمستحقيه، فهي في طريقها لافتعال أزمة جديدة متكررة، تبدأ معها عمليات فساد كبيرة، مثلما حدث مع قسائم المازوت وبعدها شيكات البدل النقدي، ويبدو حتى الآن أن آخر اهتمامات الحكومة هو إصدار قرار يهم أكثر من ثلاثة ملايين أسرة سورية».
ـ المواطن جمال ح. قال: «حكومتنا فقط شاطرة بتحصيل وفرض الضرائب على الشعب الفقير، والمضحك أنها تطلق تصريحات رنانة بأننا تحدَّينا الأزمة المالية العالمية ونجونا من تأثيرها، وفي الحقيقة أن الشعب السوري ميت من القهر والجوع والذل والبهدلة، والعام الماضي من أجل عشرة آلاف ليرة سورية للأسرة دعم للمازوت، يعني بما لا يزيد عن /200/ دولار، نامت الناس في الشوارع من أجل اللحاق بها».
ـ المواطن محمود ب. قال: «الناس الذين مازالوا يمنعون عنا الدعم، وينظرون إلينا من أبراجهم العاجية، يجب أن يقوموا بجولات على شوارع أحزمة الفقر التي تحيط بسورية كلها، وفي قلبها أيضاً، ليتأكدوا من الوضع السيئ الذي وصلت إليه حياة المواطن السوري. كل دول العالم عم تتطور، ونحن مازلنا دول العالم العاشر، وما لنا علاقة بشيء من البشرية والحضارة والقوانين والعيش بكرامة».
ـ المواطن الحاج عبد الله ص. قال بثقافة عالية: «إلى متى سيظل مسؤولونا يعتقدون أننا شعب جاهل؟ فمرة يقولون إننا تجاوزنا الأزمة المالية العالمية ولم تؤثر علينا نتائجها، ومرة يقولون أنهم سيسحبون الدعم وهناك غلاء وضرائب بسبب الأزمة، سورية عندها أزمة مالية وخيراتها منهوبة ومسروقة قبل الأزمة العالمية، وغالبية الشعب لا تملك قوت يومها، وانتشرت ظواهر التشرد والنصب والسرقة والقتل والفحشاء نتيجة الضائقة المادية التي يعانيها السواد الأعظم من الشعب، قديماً كانت الرواتب لا تتجاوز /5000/ ل.س وكان بإمكان المواطن أن يشتري بيتاً يستره ويؤويه واليوم صار يحلم بلوح توتياء يقيه من البرد ويحتمي تحته هو وأسرته، فالمواطن صار يركض وما يلحق بفضل هذه الحكومة التي جعلت من سورية بلد جباية وأتاوات، وليس بلد رعاية وحماية للمواطن وكرامته».
ـ المواطن مصطفى الحمود قال: «سورية كانت تفتخر بالاكتفاء الذاتي من القمح والمحاصيل الاستراتيجية، واليوم أصبحت تستورد القمح من دول تعمل جاهدة للتحكم بقرارنا السياسي، وصار منظر المواطنين المتدافعين في طوابير منظراً عادياً على أية سلعة، مرة الخبز ومرة المازوت، والقادم أعظم وأسوأ إذا ما استمرت الحكومة على سياساتها الحالية، لقد صارت الناس مو شبعانة الخبز في بلد عم يأكل فيها الفساد كل شيء».
ـ المواطن عادل س. قال: «بدلاً من أن تخفف الدولة من الأزمات المتلاحقة، نراها تدفع باتجاه المزيد من الأزمات وتهديد الأمن المعيشي والحياتي اليومي للمواطن، وتحاصره بالمزيد من الحاجة والعوز والضرائب وفواتير شهرية ترهق كاهله، بدءاً بفاتورة الهاتف إلى فاتورة الكهرباء إلى مصاريف التعليم، وصولاً إلى الأسعار الفاحشة التي تشهدها معظم السلع الاستهلاكية».
الملامح الحقيقة الأزمة
ـ ارتفاع سعر المازوت وتأخير توزيع البدل النقدي أجبرا العديد من سكان الريف على استخدام مدافئ الحطب، ومن يستعمل المازوت يشتري (بالطاسة) وكل يوم بيومه.
ـ هل إتباع هذه السياسة مع المواطنين هدفها دفع المواطنين للهجرة خارج سورية؟! أم خلق شرخ كبير بين الشعب وقيادته السياسية؟.
ـ ما معنى أن لا تستجيب الحكومة لمطالب السواد الأعظم من المواطنين السوريين واتحاد نقابات العمال والكثير من وسائل الإعلام التي نقلت معاناة المواطنين السوريين؟! هل يعني بالمختصر أننا أمام حكومة لامبالية، ولن يصدر عنها قرار لصالح فقراء سورية؟
ـ لو كانت الحكومة مهتمة فعلاً بإيصال الدعم لمستحقيه لعملت أساساً على حل المشكلة بإصلاح الخلل المزمن في دخل الأسرة السورية، فلو كان الدخل يكفي متطلبات الحياة المعيشية اليومية الضرورية للأسرة لما انشغلت الحكومة على مدار العام وشغلت معها السوريين بمشكلة الدعم التي لا تتواجد إلا في سورية.
بانتظار بارقة أمل
أسئلة كبيرة وخطيرة تدور في أذهان المواطنين السوريين وتقلق راحتهم: هل فكرت الحكومة جيداً بتبعيات امتناعها عن تقديم الدعم لمادة المازوت؟ وهل فكرت جيداً بعواقب هذه المماطلة وتطنيش موضوع الدعم والاكتفاء بإطلاق الوعود بتوصيل الدعم لمن يستحقه، وفق معايير ما يسمى «صندوق المعونة الاجتماعية» الذي يحتاج إلى عملية قيصرية لظهوره إلى الحياة والتطبيق؟! لأن في إقرار دعم المازوت تجنباً للوقوع في أزمات خطيرة، بدأت بوادرها بظهور أزمة غاز خانقة، وعزم الكثير من المواطنين على سرقة الكهرباء للتدفئة، واعتداء الكثيرين في المناطق الجبلية على الحراج والغابات الطبيعية، وإن تطور الأمور بهذا الاتجاه قد يهدد بتشويه الطبيعة وتصحير الأراضي أكثر فأكثر، فلم يعد المواطن مهتماً بالتغني بجمال الطبيعة وخيرات الوطن، لأن البرد كافر تماماً كما هو الجوع كافر.