من الذاكرة: كانوا... وما زالوا
لا شك أن المتابع لمجريات أحداث النضال الوطني والطبقي الذي خاضته جماهير شعبنا منذ معركة ميسلون المجيدة ضد الاحتلال الفرنسي وضد الحكام الديكتاتوريين، سيرى بكل الوضوح حقائق تجسدت على أرض الوطن تضحيةً وبذلاً وفداء،سجلها الوطنيون بجهودهم ودمائهم مشاعل نور ونار لتكون تاريخاً مشرفاً يزهو به المواطنون والوطن، وقد كان الشيوعيون وما زالوا جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من القوى الوطنية المناضلة في شتى الظروف والمواقع لخير الشعب والوطن ولهذا عانوا وقاسوا الكثير في نضالهم الشجاع ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية والاستغلال والتسلط ..ومن الأمثلة المشرفة الحية نضالهم من أجل إنجاح أول وحدة عربية في أواخر خمسينيات القرن الماضي،تلك الوحدة التي أرادوها أن تكون قوية عزيزة توفر لشعبنا حياة أكثر ديموقراطية، ومستوى عيش أفضل.
لكن وقائع الأحداث أخذت مساراً آخر، فمع إعلان الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة في 5 آذار عام 1958، بدأت معالم احتكار السلطة تظهر للعيان، فقد حصر الدستور كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية في يد رئيس الجمهورية إضافة إلى كونه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وقد تم حل البرلمان السوري، وبدئ في سورية تطبيق السياسة نفسها المطبقة في مصر على الرغم من أن الدولتين مختلفتان في مستوى حياة الجماهير فيهما، وفي مستوى الحركة الديموقراطية الشعبية والنقابية والسياسية وجرى تجاهل للبنود الثلاثة عشر التي تقدم بها الحزب لتصحيح المسار وضرب بها عرض الحائط، وصدر أمر بحل الأحزاب ورفض حزبنا أمر السلطات بحل الحزب،وأعلن الأمين العام للحزب الرفيق خالد بكداش ((أن ما من قوة تستطيع حل الحزب، وليس في الحزب هيئة لها الحق في حله)) وفي 23 كانون الأول عام 1958 ألقى رئيس الجمهورية خطاباً في بورسعيد اتهم فيه الحزب بأنه « ذو نزعة انفصالية ! « وكان الاتهام بمثابة الضوء الأخضر للأجهزة الرجعية القمعية لتشن حملتها المسعورة المعادية للشيوعية في كل أرجاء الوطن، وجرى إغلاق جريدة النور الناطقة باسم الحزب واعتقال كادرها الصحفي في الليلة الأخيرة «ليلة رأس السنة» من عام 1958 وتم مصادرة مطبعة النور الحديثة التي ساهم في حملة التبرع لشرائها أعداد كبيرة جداً من الأصدقاء، ومن الجدير بالذكر أن الجريدة كانت تنشر في أعدادها تباعاً أسماء المتبرعين أيام العهد الديموقراطي الذي سبق قيام الوحدة، ولم يكن يخطر في بال أحد أن تحدث تلك الردة من التسلط الديكتاتوري القمعي الحاقد على كل القوى الوطنية،فتجري ملاحقة كل من نشرت أسماؤهم في قوائم التبرع!! وبأمر من المشير عبد الحكيم عامر المكلف بحكم سورية في العاشر من شباط 1959 اتسعت دائرة الاعتقالات وزج بالألوف في السجون ومراكز التوقيف وأقبية المباحث، ومنهم قياديون ونقابيون وأطباء ومهندسون ومحامون ومدرسون وعمال وفلاحون وموظفون وطلاب، وقد استشهد عدد منهم تحت التعذيب الوحشي.. فرج الله الحلو وسعيد الدروبي ومحي الدين فليون وبيير شادرفيان وجمال جركس وجورج عدس.. وانتقل الحزب إلى العمل السري،وتوارى الرفاق عن الأنظار،أما الرفاق الذين كانوا يؤدون الخدمة العسكرية فتعرضوا جميعهم تقريباً للاعتقال والسجن فهم لا يستطيعون التواري كالمدنيين لأنهم سيتهمون بالفرار من الجيش،وهذا أمر تأباه وترفضه وطنيتهم الصادقة المخلصة
وكان اعتقال العسكريين يتم بناء على أمر يصدره قائد الجيش بفرض عقوبة حبس بحقهم لمدة خمسة وأربعين يوماً وهي أكبر عقوبة يمتلك قائد الجيش فرضها،يتم خلالها التحقيق معهم ثم يقدمون إلى المحكمة العسكرية لتصدر أحكامها عليهم، ومن الطبيعي أن ينكر الرفاق انتماءهم للتنظيم فهم عسكريون والعمل السياسي محظور في الجيش، وان تكون إجاباتهم على أسئلة «المحققين» بالنفي و»استعمال» الكلمات التي تبدأ بحرف «الميم» من مثل ((ما بعرف.. ما شفت.. ما كنت.. مو أنا.. ما دخلني.. ما بخصني.. ما بتذكر.. مين قال لكم.. مو صحيح)) وهذا ما جرى معي فعلاً خلال التحقيق. واليوم وأنا أستعيد ذكرى تلك الأيام أشعر بغصّة مريرة لأني أنهيت خدمتي العسكرية في السجن، ولكني في الوقت نفسه أشعر شأني شأن المئات من رفاقي وزملائي العسكريين الوطنيين بشعور أداء الواجب الوطني والطبقي،فمعاناتي جزء يسير من معاناتهم، وليس استعراض تلك المعاناة فتحاً للجروح وللمآسي،بل هو لتأكيد وطنية وكفاح آلاف الرفاق في سبيل سعادة شعبهم وعزة وكرامة وطنهم :
شيوعيين كنّا وما زلنا
على عهد الكفاح هو البقاء