«شم كفك!»
قبل خمسين عاماً علمت في بعض مدارس دمشق الابتدائية، ومنها مدرسة محي الدين العربي في حي ركن الدين، ومدرسة ابن عساكر في حارة السمانة خلف مقبرة الدحداح «الحارة التي كان يطلق عليها اسم الحارة التي ضيع فيها القرد ابنه» لكثرة دروبها الصغيرة المتداخلة، ومدرسة جعفر بن أبي طالب في حي المزة جبل وكعادتي في كل المدارس التي علمت أو درست فيها كانت علاقتي وصحبتي مع العاملين فيها من البوابين والأذنة في منتهى الجودة والطيبة، ومع الجهاز الإداري والتعليمي وفق قاعدة المعاملة بالمثل! ومن ذكريات تلك الأيام الخوالي واقعتان ترتبطان بي شخصياً:
طبيعي جداً وصحيح في الوقت نفسه أن أقول إن المعلم هو مربي الأجيال وهذا ما جسدته بسلوكي على أرض الواقع قولاً وفعلاً فقد حرصت وبكل الإخلاص على غرس الروح الوطنية كأهم قضية في نفوس جميع طلابي في كل مراحل التعليم مضافاً إليها بل ملتحماً بها احترام العمل والعمال والمرأة وطبعاً الأم والأب، والتحلي بالصدق والإخلاص والوفاء، والسعي إلى الاستزادة من العلوم والثقافة ليكونوا بحق رجال المستقبل الذي نعمل ومع كل الوطنيين ليصبح أجمل وأسعد وأفضل.
ومن ضوء هذا التوجه العام، كانت علاقتي مع طلابي حميمية، ولست أبالغ إن قلت: إنها كانت علاقة أصدقاء وإخوة والدليل على ذلك أنني خلال كل فترة خدمتي في التعليم.. لم أخرج طالباً واحداً من قاعة الدرس، وما استدعيت موجهاً أو مديراً لمعاقبة أي طالب، وكم سألني الكثير من المدراء والموجهين وحتى الزملاء ألا تحدث بينك وبين طلابك «مشاكل» وكنت أجيبهم: كثيرة هي المشكلات التي تقع ولكنني «أحلها» في مكانها ووقتها، وطلابي قابلوا هذه المعاملة باحترام أكبر وصراحة أكثر فلم يترددوا في الاستيضاح عن كل ما كان «يشغل بالهم» وكمثال على ذلك: ما حدث في الصف الخامس بمدرسة محي الدين العربي وخلال شهر رمضان، إذ اشتبك طالبان في عراك قبل دخولي قاعة الدرس، وتوقفا عندما شاهداني وآثار العراك بادية عليهما.. وقف الطلاب احتراما لمعلمهم فشكرتهم وطلبت منهم الجلوس وجلست خلف «منبر» الصف وناديت على الطالبين المتخاصمين فأسرعا نحوي. وسألتهما عن حقيقة الأمر، وفهمت منهما أن سبب الخصام هو أن أحدهما «صائم» والثاني «مفطر» والصائم أراد أن يعاقب المفطر على إفطاره. وقد أنهيت «المشكلة» بإيضاح مفهوم الصوم وغايته، وبأن من يعاقب «المفطرين» هو الله؟ وركزت على ضرورة احترام شعور الآخرين.. ولكن بشرط أن يكون متبادلاً، وليس من طرف واحد فقط.
وتابعت إلقاء الدرس وقد تجاوز الطلاب جميعاً تلك «المشكلة» وفي تلك السنة وبعد رمضان نفسه ذهبت صباح يوم عيد الفطر إلى دار أبي الكائنة فوق منطقة الانهدام على سفح قاسيون وهناك التقيت كل الأهل تقريباً.. وبعد التحية والسلام تقدمت من السيد الوالد وأمسكت يده لأقبلها كالعادة كلما التقيته فسحبها بسرعة وقد علا محياه شيء من عدم الرضا، فقلت له خير يا والدي لماذا لم تعطني يدك لأقبلها؟ ما الحكاية؟ قال: ألا تعرف يا أستاذ.. يا معلم.. قلت لا أعرف شيئاً من الأمر؟ قال «شم كفك! فشممت كفي وقلت (ما في شيء) فقال بجفوة «شمها منيح» فشممتها ثانية وكررت القول «مافي شي».
قال اسمع أخبرني أحدهم أنك أنت وصاحبك الدكتور رشيدات كنتما تسيران قبل يومين في الشارع العام وأنتما تدخنان علناً أمام الناس.. كيف تتصرفان بهذا الشكل الغريب؟ فأجبته يا أبي أنت تعرف ابنك جيداً فأنا لا أكذب، هذا أولاً وثانياً من أخبرك كاذب ومغرض يريد تشويه الحقيقة فالكلام غير صحيح أبداً، وثالثاً أنت تعرف الدكتور رشيدات ومدى خدماته لأبناء الحي الفقراء وتعرف مكانته وسمعته الطيبة وأنا لم ألتق مع رفيقي الدكتور نبيه منذ عشرة أيام، فكيف أدخن معه وفي الشارع العام قبل يومين؟ وأخيراً نحن يا والدي نحترم شعور الناس ولا نتصرف بشكل غير لائق.
هدأ والدي قليلاً ثم قال: ألم تكن مفطراً؟ قلت يا أبي هي شغلة ثانية لنحل الأولى أولاً ثم نناقش الثانية، وأمسكت يده وقبلتها قائلاً كل عام وأنت بخير فانفرجت أسارير وجهه وقال الله يرضى عليك ثم اختلطت الأحاديث والجميع يهنئون بعضهم بعضاً وأنتم قراءنا الأعزاء. كل يوم وكل ساعة وأنتم والوطن بخير.