من الذاكرة: سلام على مثقل بالحديد

قالوا ونقول لا خلاص من الاستعباد إلا بمقاومة الاستبداد ومقارعة الطغيان، فالمستبد عدو الحق.. عدو الحرية وقاتلهما والاستبداد أصل لكل فساد. وفي عص الظلمة التي تمر بالأمم آناً بعد آن، يعمد الباطشون إلى تقييد حرية القول والكتابة، فمن إرهاق إلى سجن. إلى نفي وتشريد..

 

وحكاية السجون هي حكاية الظلم بأقسى وأبشع صوره، الظلم الذي يفضح همجية الحكام الطغاة الذين ترتعد فرائصهم أمام صمود السجناء الذي ينتمون لشعوبهم قلباً وقالباً ويناضلون من أجل الحرية والتقدم والغد الأفضل، فيتعرضون للاضطهاد والسجون..

فلا تضعف لهم قناة ولا تفتر لهم عزيمة، يتحدون السجن والسجان، وقد أجاد شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري وصف صمودهم:

سلام على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافر

كأن القيود على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر

ولم يكن السجن يوماً – دفاعاً عن حق وقضية عادلة- إلا مدعاة للفخر والاعتزاز، فهو لا يعيب ولا يخيف وفي ذلك قال الشاعر علي بن الجهم منذ قرون:

قالت: حبستَ فقلت: ليس بضائري حبسي، وأي مهند لا يغمدُ

والبدر يدركه الظلام فتنجلي أيامه،  وكأنه متجددُ

والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء، نعمَ المنزلُ المتوردُ

واليوم استعيد من الذاكرة بعضاً من نضالات رفاقنا وشموخهم وهم في أقبية التعذيب وغياهب السجون، وبخاصة إبان الحملة المسعورة الظالمة التي طالت آلاف الرفاق في عهد الوحدة، فزج بهم في السجون والمعتقلات و»أشهرها» سجن المزة العسكري الذي بني في زمن الاحتلال الفرنسي، ليكون الأداة الدامية لإرهاب المناضلين الأحرار والثوار المجاهدين، وتاريخ هذا السجن الرابض على أحد تلال قرية المزة قرب دمشق حافل بقصص.. بل بغصات الأحرار ومعاناتهم طوال عهد الاحتلال وما تلاه من ((عهود)) فقد دخله الآلاف من المجاهدين والثوار والمناضلين السياسيين الأحرار مدنيين وعسكريين مع الإشارة إلى أن بعضهم وهم مسؤولون عسكريون عاهدوا رفاقهم السجناء أنهم عندما يخرجون من السجن سيبادرون ومن خلال مراكزهم في الدولة إلى إلغاء هذا السجن الرهيب، لكن ذلك وللأسف الشديد لم يتحقق.

السجن مؤلف من طابقين يحيط به سور كبير مرتفع تعلوه الأسلاك الشائكة المكهربة، ومدخله يطل على ساحة فيها براكيات  للحراسة وفسحة لوقوف السيارات، المدخل مؤلف من بابين حديديين بينهما ردهة ويليها ساحة صغيرة على جانبيها غرفة التحقيق وعدد من الزنزانات والحمام وفي وسطها بحيرة تستخدم للتعذيب «بتغطيس» رأس السجين فيها حتى يوشك أن يختنق، ثم هناك باب داخلي للسجن بعده مهاجع المساجين ثم باب على ساحة السجن الكبير التي يخرج إليها السجناء في فترة «التنفس» وفي صدر الساحة المطبخ وإلى جواره «المستوصف» وكثيراً ما تشاهد على أطراف هاتين الساحتين عدداً من المساجين وهم يجلسون على «ركبهم» شبه عراة وقد أدمت السياط ظهورهم وصدورهم وحتى وجوههم.

أما الطابق العلوي فيضم عدداً من المهاجع و»مدرسة» صارت مهجعاً، إلى جانب عدد من الغرف والزنزانات وقد «خصص» الطابق العلوي للسجناء المدنيين وفترات التعذيب «التحقيق» غالباً ما تبدأ عند العصر وتستمر إلى ساعات متأخرة من الليل، إضافة إلى «تحقيق صباحي» ينتهي عند الظهر، وخلال التعذيب يضج السجن بأصوات وصرخات الألم والمعاناة القاسية، وفي الأيام التي لا تكون «لجان التعذيب» على رأس عملها يستعاض عن الصراخ الحي الحقيقي ببث تسجيلات لصيحات الألم والتوجع. وفي منتصف الليل تعلو أصوات حراس السجن الموزعين على أطراف السور وهم يرددون بالتناوب صيحة «جاهز.. جاهز..» حتى الصباح، ومن «طرقات» على ألواح التوتياء التي تغطي زوايا السجن ،وكل ذلك كي لا يتسنى للسجناء دقائق من راحة أو هدوء. وأبطال مسلسلات التعذيب من «المحققين» العسكريين و المدنيين. أصبحوا مشهورين ومجرد ذكر أسمائهم كان يحمل «قدراً» من القلق والتوجس والخوف، ومنهم عبد الوهاب الخطيب وشتيوي سيفو ونعسان ذكار وسامي جمعة وشايش التركاوي و... كضباط «أمن» ومعهم   المساعدون والرقباء والعرفاء من محترفي التعذيب والتشفي والسادية أمثال عزات حسين وسليمان عيسى والفطراوي وكلتا وأبو جادور وغضبان  وباكير  وزين العابدين ...

والبقية تتبع..