أبي خارج صورته

كانت أهم ما في البيت الطيني الصغير، أو كما أتوقع أهم جدرانه، كان معتزاً بصورته الشابة، وفتوته الواضحة، كانت صورته تمثل زهو الرجولة التي تحمي أهل البيت وجدرانه حتى في غيابه.

يروي والدي أنه عاد في أعقاب النكسة إلى بيته عله يجد ما يمكن أن يحمله إلى نزوحه، كان المواطنون الذين اعتقدوا أن الغارة لن تستمر أكثر من أيام قليلة قد قرروا العودة للملمة ما يستر عريهم الجديد، وحمل بعضهم (اللحف) والبطانيات وبعض المونة، وعاد الكثيرون بخفي حنين، كانت البيوت قد سويت بالأرض، أو أن محتوياتها لم تعد صالحة

أعود إلى رواية أبي، دخل بيته ونظر مباشرة إلى الجدار كانت الصورة قد اختفت، نظر إلى الأرض.. البرواظ الذي يحملها انكسر، والصورة تمزقت..لمّ برفق ما تبقى من صورته، من هيبة الرجل التي تمرغت بالطرد، طُرد الذكر والرجل والفحل والإنسان من جدار.. طُرد من صورته.

فيما تبقى من كل أعوامه، من عمره الذي قضاه في دمشق صارت تلك رواية الليل، والقصة التي تقال عند تذكر الشباب والبلاد، قصة الرجل المطرود من صورته القوية إلى واقعه الكسير، واختصرت تلك اللقطة تاريخ البلاد التي لم تعد حتى الآن، ولكن بقيت الحكاية رمزاً ليوم ستعود الصورة إلى جدارها الجديد.

لأن صورة والدي وطن تشظى، وبلاد ضائعة، أراني اليوم أذكرها بغرابة المفجوع بذاكرة تلح، كأن شيطاني يدفعني للانتباه، الجنّي الذي يلازمني (ينكزني)، وإشارات غريبة واهية تؤكد هاجساً ما سيقع.. أراني اليوم على طريق الصورة، أراني اليوم أمام جدارها الذي لا مصير له إلا التراب، كأن شيئاً كبيراً يتداعى في حلقي وقلبي، ويداي تحاولان أن تلما قدراً من ذهابه إلى المحتوم، ثمة خوف يحيط بالأمكنة أنّى قادتني خطاي، ورهبة تلف الوجوه المغادرة إلى جحور نومها المضطرب.

اليوم أقرأ أيامي من جديد، وأعدها لعلها تخطئ في القدوم، الصباحات توحي بأن النهارات لن تمر كما نشتهي، والريح الباردة توحي بنذير شؤم، والدم شاهد على تاريخ يكتب الآن لوطن البدايات.

الصورة المكسورة التي تلح.. كأنها حدس ملتاث بالتشظي، وشبح الجدار الذي تدكه الأيدي باللكمات يخيم على ليالٍ مرت دون قمر.

اليوم فقط الشوارع للبرد، القرى لنومها الخائف، المدينة للفراغ، والحالمون أمام الشاشات، والعاشقات بلا أمنيات، والأمهات أضفن الدموع إلى الابتهالات، والعجائز يقرؤون في كتابهم الكريم سور الغفران والرحمة.

اليوم صورة والدي هامش مفتوح، وبرواظها الكبير وطن تعلو فيه النداءات، الدعوات، وطن لرايات تعقد من جديد، وفتوحات سيكون فيها الجميع خاسرين.

من أجل الحدود التي حفظناها ذات يوم بعيد، ووقف المعلم بعصاه الغليظة يعد.. وينتظر أجوبة غير مرتجفة، يحدها من الغرب البحر المتوسط ولبنان، ومن الجنوب الأردن وفلسطين، ومن الشمال تركيا، ومن الشرق العراق.. ويعلو صوت التصفيق لطالب لا يتلعثم، هي الحدود التي لا تحب الاقتطاع، الحدود التي تشكل البرواظ الكبير، لصورة الإنسان فيها على شاكلة الذكر والفحل والرجل والإنسان.

الآن.. أحبها كما لو أنني أقف أمام أستاذ الجغرافية لأول مرة، ولا أحب أن أنسى الجهات، والتي طالما رددتها في الطريق إلى المدرسة والفرن والبيت.

صورة أبي.. خشيتي التي تحاصرني الآن.. والقلق الذي يغطي الجدار.

■■