التوطين بدعة إنسانية حاضرة ومصلحة وطنية غائبة
قامت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بتاريخ 30/3/2016 بعقد مؤتمر رفيع المستوى، في قصر الأمم المتحدة بجنيف، ضم ممثلين عن 92 دولة، بالإضافة إلى عدد من المنظمات الحكومية وغير الحكومية، بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وقد كان مخصصاً من أجل توفير المزيد من الخيارات أمام اللاجئين السوريين.
يشار إلى أن هذا المؤتمر يأتي قبل القمة المزمع انعقادها حول اللاجئين في اجتماع للجمعية العامة في أيلول القادم.
إنسانية أممية!
وفي معرض حديث الأمين العام قال: «نحن هنا لمعالجة أزمة اللجوء والنزوح الكبرى في عالمنا اليوم». مشيراً إلى أنه قد أجبر حوالي 4.8 مليون سوري على الفرار عبر الحدود نتيجة حرب دامت خمسة أعوام، بينما هناك 6.6 مليون شخص آخر نازح داخلياً. معقباً: «الطريقة الفضلى لمنح السوريين الأمل هي من خلال إنهاء الصراع».
وفي تقرير المفوضية حول المؤتمر ذكر: «وصل مجموع عدد أماكن إعادة توطين السوريين إلى 179 ألف فرصة حالياً، ونظراً لوضع اللاجئين في أماكن أخرى تقدر المفوضية بأنه سيكون هناك حاجة إلى حوالي 480 ألف مكان قبل نهاية عام 2018».
فيليبو غراندي، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، قال: «يجب أن يصبح توفير سبل بديلة لقبول اللاجئين السوريين جزءاً من الحل»، وقال بأن هذه السبل الأخرى تشمل: «آليات أكثر مرونة للمّ شمل العائلات بما في ذلك أفراد العائلات الممتدة وبرامج العمل وتأشيرات الدراسة والمنح الدراسية والتأشيرات لأسباب طبية».
بازار سياسي مفتوح
على الرغم من المعاناة التي يعيشها السوريون، والتي وصلت لحدود الكارثة الإنسانية بأقسى صورها، فإن المجتمع الدولي ما زال يتعامل مع هذه الكارثة وفقاً لمنطق البازارات السياسية، بين الدول والقوى الفاعلة فيه، مستغلين هذه الكارثة أبشع استغلال، وذلك كله تحت عناوين ويافطات إنسانية، حيث يدفع كل منهم بورقة السوريين في وجه خصومه، اعتباراً من المساومة التركية الأوربية، وليس انتهاءً بورقة الضغط الجديدة المتمثلة بموضوعة التوطين أممياً، وخاصة على دول الجوار السوري، بما تحمله معها من تداعيات سياسية داخل هذه الدول نفسها، وتحديداً بظل عدم التجاوب أوربياً وأمريكياً مع هذه الموضوعة، إلا بمقدار ما تحقق لهم من ضغوط إضافية هنا وهناك، على حساب استمرار المعاناة والكارثة الإنسانية التي يعاني منها السوريون.
يتجلى ذلك أممياً في البداية، حيث أن مساعي الأمم المتحدة كلها، ومن خلفها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، تظهر بالسعي لتوطين 480 ألف لاجئ، من أصل 4.8 مليون منهم، أي ما يعادل 10% فقط من إجمالي اللاجئين، والمتواجدين بالنسبة الكبيرة في دول الجوار، ليس ذلك فقط، بل إن هذا العدد، المتواضع بالنسبة والتناسب، سيتطلب استكمال توطينه حتى عام 2018، أي أن موضوعة البازار السياسي المفتوح ستستمر بعد ذلك لمدة طويلة، حسب ما هو مبرمج على ما يبدو، حسب المساعي المعلنة لتوطين الأعداد اللاجئة كلها.
وعلى المستوى الدولي ما زالت التداعيات قائمة على أثر استمرار تواجد الآلاف من اللاجئين على الحدود اليونانية المقدونية في العراء، والاتفاق الأوربي التركي الذي يجيز إعادة اللاجئين إلى تركيا، والخشية اللبنانية من موضوعة التوطين وأخطارها المحتملة على البنية السياسية والديموغرافية فيها، وغيرها من التداعيات الأخرى المرتبطة بهذه الموضوعة.
وأخيراً على المستوى المحلي والوطني، وما تمثله تلك الموضوعة من ابتزاز للمشاعر الإنسانية، والارتباط بالهوية الوطنية، والبازارات السياسية المفتوحة على مصراعها بين القوى المتصارعة على الجبهات السياسية والعسكرية والأمنية المختلقة، وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
ومن الأرقام المعلنة فإنه وحتى تاريخه تم توفير 189 ألف فرصة توطين على مستوى دول العالم خلال سني الحرب والأزمة التي تعصف بالسوريين، أي أن الأرقام كلها التي تم ويتم تداولها حول موضوع التعاطف الإنساني مع الكارثة الإنسانية السورية ما هي إلا وهماً للترويج الإعلامي والاستثمار السياسي، تحت يافطة الإنسانية.
وغيرها الكثير الكثير من البازارات والمساومات المفتوحة استثماراً على بوابة الكارثة الإنسانية السورية وتداعياتها، ومساعي إطالة أمدها.
منظمات غير حكومية
أكثر استثماراً
وما يزيد من حجم تداول المأساة والكارثة بشكل سلبي، هي تلك المنظمات غير الحكومية التي تتنطح بمواقفها الإنسانية، مستعينة بالأرقام والإحصاءات، معززة للبازارات السياسية القائمة، وليس آخرها منظمة أوكسفام البريطانية غير الحكومية، التي تأخذ من لندن مركزاً لها، حيث استبقت المؤتمر الدولي آنف الذكر والمنعقد بجنيف، بمجموعة من الأرقام عن تعداد من تم قبولهم من السوريين في العديد من الدول، مقارنة بالتعهدات المقدمة من كل منها، حيث تظهر تلك الأرقام وكأنها أوراق ضغط إضافية ليتم استثمارها من هذه الدولة أو تلك، خلال المؤتمر، علماً بأن تلك الأرقام كلها لم ولن تصل لحدود الاقتراب من حقيقة الكارثة التي يعيشها السوريين.
حيث ذكرت بتقريرها المقدم بتاريخ 29/3/2016 أن ثلاث دول غنية فقط، وهي كندا وألمانيا والنروج، تجاوزت حصتها العادلة من إعادة التوطين نسبة إلى وضعها الاقتصادي، في الاستقبال الدائم للاجئين، مشيرة إلى أن خمس دول أخرى، وهي أستراليا وفنلندا وأيسلندا والسويد ونيوزيلندا، ساهمت بأكثر من نصف حصتها، كما أن فرنسا لم تستقبل حتى اليوم إلا ألف لاجىء سوري، أي 4% من أصل 26 ألف شخص يفترض أن تستقبلهم.
أما الولايات المتحدة التي استقبلت 1812 لاجئاً سورياً وتعهدت باستقبال عشرة آلاف آخرين، فلا تساهم إلا بـ 7% من حصتها التي تبلغ نحو 171 ألف شخص.
وساهمت هولندا بنحو 7%، والدنمارك 15%، وبريطانيا بـ 22%، مشيرة إلى أن عدد اللاجئين في لبنان يبلغ خمس التعداد السكاني، فيما يشكلون 10% من السكان في الأردن.
التوطين في الداخل السوري
أجدى وطنياً
وبالتالي فإن كل حديث عن توطين، أو غيره، ما هو إلا نوع وشكل جديد من البازارات والمساومات السياسية، ذات الغلاف الإنساني، على حساب مآسي الشعب السوري وكارثته، وهو عملياً ليس بحال من الأحوال مشروعاً يصب بالمصلحة الوطنية أو بمصلحة السوريين، بنهاية المطاف، حيث أن أغلب السوريين الذين اضطروا للجوء خارجاً، لديهم الرغبة الحقيقية بالعودة والاستقرار في وطنهم، ليستعيدوا حياتهم وأنشطتهم، على مختلف المستويات، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولعله من الأجدى نفعاً على المستوى الوطني والدولي والأممي، بل لعله الأقل تكلفة، البحث عن إمكانية إعادة توطين السوريين في أرضهم، بدلاً من الادعاءات الإنسانية البائسة كلها، من هذه الدولة أو تلك، أو عبر هذه المنظمة أو سواها، وذلك عبر السعي الجدي لإنهاء الصراع الدائر، والوقوف مع الشعب السوري الراغب في إيجاد حل سياسي شامل ينهي أزمته، كما يضع حداً لحروب الغير على أرضه.