المحافظة «تغض» البصر عن «تجارة الموت».. وتستغل زيادة الوفيات برفع تكاليف الدفن

المحافظة «تغض» البصر عن «تجارة الموت».. وتستغل زيادة الوفيات برفع تكاليف الدفن

رغم ازدياد حالات الموت جراء الحرب التي تدور رحاها في أنحاء البلاد، في وقت لم يتوقف فيه الموت نتيجة المرض والأقدار، إلا أن أياً من المسؤولين في الحكومة لم يحرك ساكناً لتأمين مكان لائق للموتى، وكيف لا وهم لم يتحركوا لتأمينهم في حياتهم، بل حولوا بقصد أو دونه، مختلف القطاعات والمجالات لحالات منكوبة بقراراتهم وتوجهاتهم..

 

 

ويعاني سكان دمشق منذ فترة ليست بالقليلة، من إيجاد مكان لائق لدفن مواتهم، حيث تعج مقابر المدينة ولا شاغر فيها، فضلاً عن انتشار حالات من الفوضى والسرقة للقبور، بعلم المحافظة التي أقرت بعدم إمكانيتها ضبط هذه الحالة، حيث يمكن لحراس المقابر وحفاري القبور جني أموالٍ طائلة مع كل روح تفارق جسدها في العاصمة، خاصة مع عدم تفضيل مواطني دمشق، التوجه إلى مقبرة نجها المتطرفة ودفن موتاهم فيها.

وفتح هذا الباب كنوزاً، وحول العاملين في مجال الدفن لأصحاب ملايين، يستغلون حاجة الناس وحزنهم، فيما تقف المحافظة عاجزة أمام دهاء وسعة حيلة أولئك!.

المحافظة لم تضاعف التكلفة ..

رفعتها فقط!

وفي خضم المعاناة، أصدرت المحافظة مؤخراً قراراً حمل نوعاً من الغموض، وسارع الناس إلى تفسيره بطريقة مغلوطة، ما أجج الغضب والاستياء بينهم، خاصة مع كونه يسير في ذات المنحى الذي سئمه المواطنون، برفع الأسعار والتكاليف والخدمات لكل شيء.

ونص قرار المحافظة الأخير، على أن تصبح رسوم الدفن بـ12200  ليرة للدرجة الممتازة، و10700 للدرجة الأولى، و9200 للدرجة الثانية، و6000 ليرة للدرجة الثالثة لعمر من دون 14 عاماً، كما حدد القرار تكلفة تجهيز القبر من الأسفل بمبلغ 16000 ليرة، وأجور التنزيل للمتوفى بـ 2500 ليرة.

وفسرت محافظة دمشق، عبر لقاء إذاعي، مالم يكن واضحاً في قرارها، حيث لم تصدر قراراً برفع أسعار القبور ذاتها، على حد تعبير عضو المكتب التنفيذي للقطاع المالي والموازنة فيصل سرور، الذي أفاد بأن القرار مخصص لتعديل تكاليف الدفن، بما تشمله من تجهيز للمتوفين، وما يعرف بـ»ذهبة المتوفى»، والتي تتضمن قماش الكفن والحنة والغسيل والصابون والكافور والشاش والقطن، وما إلى هنالك.

وعن الدرجات التي تضمنها القرار، قال سرور إن التكلفة تتباين تبعاً لما يرغب أهل المتوفى باستعماله وإضافته أثناء تجهيز الميت، حيث يختلف السعر حسب الإضافات وينقص بنقصانها.

وأكد سرور أن الأسعار الجديدة ليست مضاعفة عن سابقتها، بل هي رفع لها بنسبة 30% فقط.

وفيما يبدو أنه تبرير للقرار، إلا أن الحقيقة التي لا خلاف عليها، هو إصرار وتصميم المعنيين في الحكومة بالاستمرار في نهجهم، وافتراض أن المواطن هو المسؤول الأول والأخير عن تأمين مورد للخزينة ونفقاتهم، فحتى الموت لم يؤخذ له اعتبار، وتم التعامل معه كأي خدمة أو سلعة يتوجب تحصيل نفقاتها وفرق التكلفة نتيجة التضخم وخسارة العملة لقيمتها، من جيب المواطن.

مقابر العاصمة ممتلئة.. 

ومعاملات في الخفاء بالملايين

أما فيما يخص حالة المقابر داخل دمشق، أقرت المحافظة بعدم وجود مقابر شاغرة، وأن المقابر كافة ممتلئة وغير قادرة على استيعاب المزيد من المتوفين، بينما توجد مقبرة نجها، والتي يمكن لأي كان حجز مكان فيها لدفن موتاه مقابل مبلغ 3500 ليرة، شرط مرور 5 سنوات على دفن آخر متوفى في القبر نفسه.

وفي حال حفر وتجهيز قبر جديد في نجها، فإن سعر القبر مع التجهيزات والخدمات كلها من الدرجة الممتازة، والتي يقدمها مكتب دفن الموتى التابع لمحافظة دمشق، يصل إلى نحو 20 ألف ليرة سورية فقط، على حد تعبير سرور.

ومع الإقرار بامتلاء مقابر العاصمة، بات التكهن بوجود تعاملات «في الخفاء» بين حراس المقابر وحفاري القبور من جهة وبين أشخاص آخرين من جهة أخرى، سهلاً ومؤكداً، حيث باستطاعة أية عائلة في حال «إرضاء» حارس المقبرة الفلانية وحفار القبور، الحصول على القبر الذي يشاؤون، وحتى دون علم العائلة مالكة القبر الأساسية.

وفي أحيان أخرى، تتيح العائلات قبورها لموتى غرباء، مقابل مبالغ باهظة، حيث يكون حفار القبور سمساراً في إتمام تلك الصفقات، كي لا يصل الخبر للمحافظة أو مكتب دفن الموتى، وتتم العملية بهدوء ودون «شوشرة».

للقبور أسعار وميزات..

وأكد الخبير العقاري، عمار يوسف، لـ«قاسيون» أن حالات بيع القبور بسوق سوداء منتشرة بشدة في دمشق، وتجري بمختلف المقابر التي تتميز عن بعضها بالسعر.

وأوضح يوسف إن «لكل مقبرة في دمشق سعرها الخاص، حيث يؤثر الحي والمكان الذي توجد فيه المقبرة بالمرتبة الأولى على أسعار القبور فيها، كما يلعب موقع القبر داخل المقبرة الواحدة عاملاً إضافياً في تحديد سعر القبر، ويميزه عن غيره، فضلاً عن الطابق المرغوب الدفن فيه داخل القبر الواحد».

وبالتفاصيل، قال يوسف إن «مقبرة الدحداح وباب الصغير، هما أغلى المقابر في دمشق، نظراً لتواجدهما في أحياء راقية من العاصمة، ويعتبر قرب القبر من باب المقبرة والشارع الرئيسي، أو كون القبر سوكة، أو اتجاهه قبلي أو شمالي أو غيرها، عوامل مميزة ترفع السعر، في حين يعتبر اختيار قبر قريب من قبر «آل البيت» بالنسبة لمقبرة الدحداح ميزة لها ثمنها، ويصل سعر القبر في هاتين المقبرتين إلى مليوني ليرة سورية».

ولفت يوسف إلى أن «أسعار القبور في بقية مقابر العاصمة تتدرج نزولاً عن ذلك السعر، وصولاً لمليون ليرة، لا أقل».

أما بالنسبة للمقابر المسيحية، قال يوسف إنها «أغلى ثمناً من مقابر المسلمين، ويصل سعرها لضعف الأرقام المذكورة، إذ من الممكن جداً أن تبلغ تكلفة القبر الواحد فيها أربعة ملايين ليرة سورية».

خرائط توضيحية

مغيبة لصالح السرقات

وحول طرق سرقة القبور، كشف يوسف إن «هذه الممارسات تتم بالتواطؤ ما بين حراس المقبرة وأشخاص آخرين، حيث يتم تكسير شواهد القبور وخاصة تلك المنسية منها، ثم فتحها بعد عدة سنوات ودفن الموتى فيها، بغض النظر عن قربهم من العائلة المالكة للقبر بالأساس».

وعلمت «قاسيون» أن اتفاقات لبيع وشراء القبور تتم بعيداً عن مكتب دفن الموتى التابع لمحافظة دمشق، وضمن مكاتب عقارية، حيث تعتبر هذه العملية مخالفة للقانون الذي لا يسمح ببيع القبور، لأن ملكيتها تعود لوزارة الأوقاف، ولا يمكن بيعها وشراءها، وحقوق العائلات تنحصر فقط بدفن موتاهم.

وفي حالات عديدة، تسمح عائلات مالكة للقبور، باستضافة غرباء في مقابرهم، إلا أن بعض العائلات المستضافة ترفع دعاوى لنقل ملكية القبر لها، بعد أن تكون دفعت مبلغاً معينا للعائلة المضيفة لقاء الدفن لمرة واحدة، لكنها تستغل موافقة العائلة المضيفة لرفع الدعوى ضدها، وقد تحصل على قرار قضائي لصالحها ينقل بموجبه ملكية القبر للعائلة المستضافة، وهو ما لا تستطيع محافظة دمشق منعه، خاصة مع وجود حكم قضائي.

ولفت يوسف إلى أن «المحافظة قادرة على كشف حالات السرقة التي حصلت وضبطها، إلا أنها لم تأخذ بأية طريقة لضبط تلك الأمور، حيث توجد خرائط توضيحية لكل مقبرة، يذكر فيها أماكن القبور وتوزعها داخل المقبرة، مع تسمية العائلات المالكة لتلك القبور، ما يتيح معرفة القبور التي تعرضت للسرقة وتكسير الشواهد، لكن ذلك لم يحصل سابقاً، ولم تتم الاستفادة من تلك الخرائط».

33 مقبرة ممتلئة.. 

وواحدة شاغرة لـ8 مليون نسمة

وعن العوامل المسببة لهذا الارتفاع في أسعار القبور بالعاصمة، فنّد يوسف الأسباب بقوله إن «دمشق شهدت تغيرات ديموغرافية وتضاعفاً في التعداد السكاني، لم يقابله المعنيون بتوفير مناطق أو توسيع المناطق القديمة المخصصة للدفن، باستثناء مقبرة نجها البعيدة نوعاً ما».

وتابع يوسف «زادت حالات الموت في المجتمع السوري عموماً، بين 20-25% في الفترة الأخيرة، دون أن ننسى تأثير الأزمة، فضلاً عن انخفاض قيمة العملة السورية بسبب تردي الحالة الاقتصادية وتراجع عجلة الإنتاج الاقتصادي».

وبحسب تقارير، وصل عدد سكان دمشق إلى 8 مليون نسمة، بسبب حالات النزوح التي شهدتها في سنوات الحرب الخمس، إلا أن عدد المقابر في المدينة مازال 33 مقبرة، منذ نشأة المدينة، أضيفت لها مقبرة وحيدة في نجها.

والحال كذلك، فإن التجارة بالقبور وسرقتها، ستستمر في العاصمة، إلى أن تقوم المحافظة بدورها الجدي بهذا الشأن، وبإيجاد حلول مناسبة لهذا الملف، على المستوى الآني والمستقبلي.