كيف نقضي على الإرهاب؟
يكاد لا يخلو أيُّ مقالٍ أو حوارٍ أو نشرة أخبار أو أيُّ من مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) من تلك الكلمة البغيضة (الإرهاب).
حتى باتت هذه الكلمة لازمة يومية ترافقنا منذ أكثر من ثلاثة عقود. وقد عُقِدَت اجتماعات ومؤتمرات عدّة على مستوى المنطقة والعالم ترصد هذه الظاهرة وتبحث في أسبابها وكيفية التخلّص منها. وتعدّدت الاتجاهات والمدارس الفكرية التي تناولتها ولم تُجمع على تعريف موحدّ لها. لكنها تتفق في القول بأنها ظاهرة خطيرة في حياة المجتمعات الإنسانية، وهي مركبة ومعقدة ولها أسباب كثيرة ومتداخلة تعتمد على العنف بقصد بثّ الرعب في نفوس المواطنين وترويعهم. وإن الإرهاب عديم الهوية ولا ينتمي إلى بلد وليست له عقيدة، إذ أنه يوجد عندما توجد أسبابه ومبرراته ودواعيه في كل زمان ومكان وبكلّ لغة ودين. ولعلّ أكثر ما ظهر على السطح في معالجته هو الميل إلى محاربته عسكرياً وأمنياً. وغفل الكثير ممّن تصدّوا له الجوانب الأخرى للإرهاب (الاقتصادي، الاجتماعي، الديني، القومي، الثقافي، النفسي..) التي تشكّل العمود الفقري لنشوء ظاهرة الإرهاب. والتي لا يمكن القضاء عليها ما لم نقضِ على الأسباب والظروف التي أنشأتها. فالإرهاب هو ليس فقط ترويع الناس بالمتفجرات والقتل والذبح والتقطيع وما إلى ذلك.. بل حرمان الناس من لقمة العيش الكريم، وتكميم الأفواه وزجّ المعارضين في المعتقلات يساهم في تفشي هذه الظاهرة. والإحساس بالإرهاب يشمل كل من يخشى الوقوع بمرض وليس بمقدوره شراء الدواء. كل من يحوز على شهادة جامعية ولا يجد فرصة عمل. كل من يبلغ سن الزواج وهو غير قادر على (إكمال نصف دينه) بسبب الغلاء الفاحش. كل من ينتقد فكرة أو حادثة ما ويهدر دمه بسببها..
ومن خلال استعراضنا لتاريخ الإرهاب نجد أنه بدأ مع الانقسام الطبقي للمجتمع وظهور الاستغلال والاستعباد والإيديولوجيات المتعددة والمتناقضة.
وبدأ الصراع ما بين المستغَلّين والمستغِلّين. ومن المعروف أنه لا يوجد إرهاب عبثي، بل لطالما كان له هدفٌ يسعى صانعوه وداعموه لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية أو نفسية في مآلها الأخير. وقد تتظاهر الكثير من القوى والحكومات أمام ضغط الرأي العام إلى الادّعاء نفاقاً بأنها جادّة في محاربة الإرهاب، وتجعلها شمّاعة لتمويه مخططاتها وإشغال شعوبها عن فقرها ومظالمها والأسباب الرئيسة لمعاناتها، بحجة «لا صوت يعلو على صوت محاربة الإرهاب».
ففي الآونة الأخيرة ظهرت ثلاثة أحلاف لمحاربة الإرهاب؛ الحلف الستّيني بقيادة أمريكا، والتنسيق الرباعي الذي تقوده روسيا، والحلف الأخير بقيادة السعودية والذي يضمّ (34) دولة. لن نبحث في مدى جدّية هذه الأحلاف في مكافحة الإرهاب، إذ أن أيّ متابع منصف سيجد أن أغلبها مستفيد من انتشار ظاهرة الإرهاب، ويتلطّى خلف يافطة مكافحتها لأهداف سياسية واقتصادية باتت معروفة للجميع. باستثناء الحلف الروسي الذي تشكّلَ منذ قرابة الثلاثة أشهر، الذي يعتبر من أكثر الأحلاف جدّيةً وحزماً في مكافحة الإرهاب. وليس خافٍ على أحد من أنه لا يمكن التعويل على دول الرأسمالية الغربية في محاربة الإرهاب؛ ولو رجعنا إلى عقود قليلة سابقة سنجد أن من دعم المنظمات الفاشية والنازية والعصابات الإرهابية الأخرى كافة هي الدول الاستعمارية. التي ما انفكّت تموّل وتدعم خلسةً أحياناً وبشكلٍ جهور أحياناً أخرى لتحقيق مآربها الخبيثة في الهيمنة والتسلّط على الشعوب وزيادة نهبها لهم. ولكن عندما يتمدّد (المارد) الإرهابي ويتعاظم ويغدو أثره يهدّد داعميه أنفسهم، تنبري حينذاك تلك الدول لمحاربته بغية تحجيمه وتطويعه وإيقافه ضمن حدود السيطرة عليه لإكمال تنفيذ المخطط المرسوم له. وقد تنجح القوى الجادّة في محاربته عسكرياً في إضعافه والحدّ من انتشاره وتقصيه مؤقتاً إلى زمن لاحق آخر. ولكن هيهات أن تجتثّه وتقضي عليه نهائياً إلا باتّباع مجموعة من التدابير والخطوات الإستراتيجية على مختلف الجبهات وعلى مستوى العالم لنخلص من هذه الآفة. باختصار نقول: لن ينتهي العنف بالعنف وإنما بوسائل أخرى ضمن منظومة متكاملة من السياسات لعلّ في طليعتها:
اتفاق دولي واضح وشفاف على تعريف محدد للإرهاب يحـدّد مظاهره وصوره وأسبابه وكيفية محاربته.
ازدهار اقتصادي متوازن شامل مع أعمق عدالة اجتماعية.
تطبيق العلمانية من خلال فصل الدين عن الدولة وعن المدرسة وعن العلوم. والتأكيد على مبدأ المواطنة.
تكافؤ فرص بين كافة فئات الشعب، بغضّ النظر عن الانتماء الديني والمذهبي والطائفي والقومي والعرقي والجنسي.. والعمل وفق معايير وأطر محددة تخلق الثقة بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة.
العمل على نشر الثقافة بمختلف مكوّناتها من خلال حرية الإعلام بكل أنواعها. ومنع السخريّة من رموزٍ مقدّسة ذات أهميّة عاطفية قصوى في حياة المتدينين..
تطبيق مبادئ الديمقراطية واحترام عقائد الناس وعاداتهم وتقاليدهم ومنع كل أساليب التكفير والبطش والقهر والقمع وما إلى ذلك.
الاهتمام بالجوانب التربوية والأخلاقية من خلال نظام تعليم راقٍ مجاني. وإشاعة ثقافة التسامح والمحبة ونبذ العنف والغبن والشعور بالمهانة بكافة أشكالها، وصون كرامة الناس والقبول بالرأي الآخر المختلف.
إقامة الأندية الرياضية والفنية (باليه، مسرح، سينما، موسيقى، رسم..) وتشجيع الانتماء إليها لتهذيب النفس والسلوك.
محاربة الفقر والبطالة والتخلف والجهل والمخدرات واليأس والإحباط، وتقليص الفوارق الطبقية في المجتمع، والقضاء المبرم على الفساد بصوره كافة عبر قضاء نزيه وعادل.
التخلّص من الاستعمار والاضطهاد أشكاله كافة، وحلّ النزاعات فيما بين الدول استناداً إلى القانون الدولي.
وعلى ضوء ما تقدّم، نستنتج أنه بمقدورنا القضاء على الإرهاب واستئصال منابع التطرف من جذوره، من خلال تكاتف الجميع في عمل جاد ومتواصل. وقد نحتاج إلى عقود، وربما قرون لإنجاز ما نصبو إليه. ولا يهم طول المدة، المهم أن نسير بالطريق السليم.
فهل نحن فاعلون؟
أخيراً، يقول (ماركس): «ما من سبب يدفع الإنسان إلى اتخاذ سلوك غير إنساني إذا ما توافرت لديه إمكانية إشباع حاجاته الحقيقية بصورة إنسانية وتوافرت لديه فرص تطوير هذه الحاجات».