هاربون من المقابر
أي عار على الإنسانية، عندما تصل حدود المعاناة التي تصيب المدنيين العزل إلى أوضاع إنسانية ومعيشية مزرية، تصل لحدود شفا الموت جوعاً في بعض الأحيان، بظل حصارات خانقة تفرض على المدنيين العزل، هنا وهناك، واستخدامهم كوسيلة ضغط لحسابات سياسية، أو عسكرية وميدانية، على حساب حياتهم ومعاشهم.
آلاف من المدنيين المحاصرين في هذه المنطقة أو تلك، وليس آخرها ما تم تداوله عبر تقارير إخبارية، من هنا وهناك، عن واقع الحصار على أهالي مضايا وبقين، والنازحين إليها من المناطق المجاورة، وما تم الحديث عنه بوجود حالات من الموت جوعاً هناك، حيث لم يختلف وضعهم عن أوضاع غيرهم من الأهالي في المناطق المحاصرة الأخرى، الذين بدأوا بإحصاء أيامهم على أنها أيام ما بعد الموت، باعتبار أنهم لم يعودوا أحياء بالمعنى الإنساني والمعيشي، كحال المحاصرين في دير الزور مثلاً.
كما تحدثت بعض التقارير عن اضطرار المحاصرين من الأهالي لأن يقتاتوا على الأعشاب، بسبب إجراءات الحصار الشديدة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والاحتياجات المعاشية الضرورية الأخرى، بسبب تحكم المسلحين بها غالباً، فيما تنعم المجموعات المسلحة، في نفس مناطق الحصار، بوفرة في المواد الغذائية ومستلزمات الحياة الأخرى، التي يوفرونها لأنفسهم على حساب الأهالي غالباً، وهو ما يتحدث عنه الأهالي، ويغفل عنه الإعلام غالباً، وبشكل متعمد، خدمة لأهواء البازارات السياسية والقائمين عليها والمستفيدين منها.
تقارير أخرى
بالمقابل وبحسب تقارير من الهلال الأحمر مؤخراً، بأنه قد تم إيصال مساعدات غذائية إلى بلدتي مضايا وبقين، منذ شهر تقريباً، وهي تكفي الأهالي هناك لمدة شهرين على أقل تقدير، أي أن هناك ما يكفي احتياجات الأهالي لمدة شهر آخر بعد، كما أفيد مؤخراً عن التوصل لاتفاق بإشراف الأمم المتحدة عبر هيئة الهلال والصليب الأحمر الدوليين، يتم بموجبه إدخال المساعدات الغذائية والدوائية إلى تلك المنطقة وغيرها، خلال أيام.
«خاين العِشرة»
ظروف الجوع والقهر والحرمان التي عاشها ويعيشها هؤلاء المحاصرين، مع تدن بدرجات الحرارة خلال فصل الشتاء، وعمليات التفاوض التي تتم بين التقدم والتراجع والانتكاس، والمعارك الإعلامية المصاحبة، حسب أهواء القائمين عليها واعتباراتهم، دون الأخذ بعين الاعتبار تلك المعاناة التي يعيشها المدنيون، والشروط الإنسانية الواجب تأمينها لهم، وخاصة على مستوى الغذاء والدواء، بل واستثمار تلك المعاناة كورقة ضغط من أجل تعزيز الشروط التفاوضية، أو المزايدات السياسية، والنتيجة هي أن وصل حال المدنيين في كل مناطق الحصار وعلى اختلافها، إلى وضع إنساني ومعاشي متردي، ومع المزيد من المعاناة يوماً بعد آخر، وخاصة مع استمرار عمليات القصف المتبادل، التي يذهب ضحيتها أيضاً وغالباً هؤلاء المدنيين أنفسهم، فقد بات تقييم الكثير من الأطراف المتنازعة بنظر هؤلاء المدنيين كخونة العشرة، على اختلاف مواقعهم ومواقفهم.
هياكل عظمية متحركة
أي بؤس وأي أفق يتوقعه هؤلاء المتحكمين بمصائر البشر وحياتهم، وأي نتيجة يمكن أن يتوصلوا إليها، عبر المماحكات والمزاودات واستعراض العضلات الإعلامية، لا يمكن أن تعوض عن فقد الإنسانية والحياة، بسبب الجوع والبرد والعوز والمرض، ناهيك عن مسببات الموت الأخرى نتيجة الحرب الطاحنة، ففي مناطق الحصار لم تعد مقومات الحياة هي المفقودة، بل إن الحياة نفسها أصبحت أكثر المفقودات، ورغم ذلك لم يتم التخفيف من إجراءات الحصار، أو عمليات الاقتتال والقصف عليهم، وأصبح شكل الناس الموجودين هناك أشباه بشر، وكأنهم هاربين من المقابر بملامحهم، التي يغلب عليها شكل الهياكل العظمية المتحركة، أو العاجزة عنها غالباً، جراء الوهن والمرض والجوع.
الموت فرجاً
جميع الأهالي المحاصرين، وعلى اختلاف مواقفهم ومناطقهم واصطفافاتهم، كانوا خلال فترات فرض الحصار عليهم، وخاصة بمراحله الأولى، متفائلين ومستبشرين بأي اتفاق يعقد أو تسوية يعلن عنها، بل وأن معظمهم كانوا من الضاغطين باتجاه انجاح المساعي الرامية إلى ذلك، ولكن بعد أن وصل بهم الحال إلى درك الحاجة والجوع والعوز، باتوا ينتظرون أي مخرج لهم من البؤس والجوع، ضاربين عرض الحائط بكل الوعود التي أبرمت أمامهم ولهم وعلى حسابهم، وقد أيقنوا بأن غالبية المزاودين على حسابهم وعلى أرضهم، لا تعنيهم حياتهم وبؤسهم ومأساتهم، بقدر ما يعنيهم الترويج لإمكاناتهم، التي يعتبر التحكم بمصائرهم أحد أدواتها ووسائلها.
وخلال تلك الفترة الطويلة من الحصار، وكلما تعثر اتفاق ما أو تسوية معينة، يكون نتيجتها المزيد من المعاناة للمدنيين، والمزيد من الموت لهم، حيث دمرت بيوتهم، وحرموا من مزارعهم، واستنفذوا إمكاناتهم ومدخراتهم، وكان ذلك كله يصب في جيوب بعض أطراف النزاع والمستفيدين منه، وخاصة أولئك الساعين دائماً لعرقلة تنفيذ أي اتفاق، بغاية استمرار استفادتهم، حتى وصل الأهالي لحالة العدم والقهر الإنساني.
عار على الإنسانية
تلك الحالة الإنسانية المتردية التي وصل إليها المدنيون في المناطق المحاصرة كلها، سيسجلها التاريخ كوصمة عار على جبين الإنسانية، كما على جبين أطراف البازارات السياسية والإعلامية، والمستفيدين من استمرار النزاع وإطالة أمد الأزمة، ولن يغفر لهم أي مبرر أو مسوغ، أو نتيجة متوخاة، جراء فعلتهم في تجويع البشر، خاصة وأن بعض هؤلاء كانوا قد منعوا حتى المنظمات الإنسانية المحلية والدولية، كالهلال والصليب الأحمر، من أن تقوم بدورها في مجال إيصال الغذاء والدواء، أو إخلاء المرضى والمصابين والجرحى، من تلك المناطق، أو يستولون على ما يرد منها ليوزعوها حسب أهوائهم ولمصلحتهم.
كلمة مخيفة وواقع أخطر
وأمام هذا الواقع غير الإنساني، والذي يطلق عليه الكارثة الإنسانية بكل تجلياتها ومعانيها، في كل المناطق المحاصرة على امتداد الجغرافيا السورية، لم يعد من المجدي أو العقلاني الوقوف عند الأسباب والمبررات والمسوغات التي يعلنها، أو تتبجح وتتحجج بها أطراف التجاذب السياسي والإعلامي، أو أيهما محق أو مخطئ في اللحظة الراهنة، فالحق حالياً يقف مع هؤلاء المنكوبين بحياتهم وإنسانيتهم، أولاً وآخراً وقبل كل شيء، بعيداً عن وضعهم واستخدامهم كوسيلة ضغط عبر المنابر السياسية والإعلامية، وكل موقف معيق أو معرقل لأي مساعدات يمكن ويجب أن تقدم لهؤلاء المدنيين، هو مُدان إنسانياً ووطنياً، ولن يكون فعل الإدانة أكبر أو أخطر من واقع لم يعد إنساني، بكل المقاييس، كما الإدانة ستلحق كل معيق ومعرقل ومستفيد من عدم تنفيذ الاتفاقات والهدن والتسويات والوعود المعلنة، التي يجب أن تعززها الحلول السياسية الشاملة، والتي وحدها ستخرج البلاد من أزمتها ومحنتها.