«البالة».. (تجارة سوداء) في وضح النهار
كانت وما زالت أسواق الألبسة المستعملة «البالة» ، الصديق الوفي لجيوب الفقراء، هروباً من الأسعار المرتفعة للألبسة الجاهزة في الأسواق، سواءً المنتجة محلياً أم المستوردة عبر وكالات لماركات بعينها، كما هي صديقة للباحثين عن التميز بما يرتدونه من قطع فريدة ذات ماركات أجنبية، من شرائح وطبقات اجتماعية تعتبر ميسورة الحال، وهي بذلك تحمل صفة الخدمة العامة التي يغلب عليها طابع خدمة الفقراء وذوي الدخل المحدود.
ومع تردي الواقع المعاشي يوماً بعد آخر، بظل الأزمة الحالية وتزايد أعداد النازحين، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني وخاصة أسعار الألبسة الجاهزة، بعد توقف العديد من معامل وورشات تصنيعها المحلية بنتيجة ذلك، مع ارتفاع تكاليف التصنيع وإعادة التشغيل، إضافة الى توقف عمل وكالات الألبسة المستوردة بنتيجة العقوبات، ازدهرت معدلات أداء هذه الأسواق، وزاد انتشارها والمستثمرين فيها بشكل ملحوظ، على الرغم من معاناة تجار هذه الأسواق وارتفاع تكاليفهم، بسبب ازدياد تحكم المهربين، حيث اقتصرت المصادر على لبنان غالباً، بعد أن كانت ترد عبر الأردن وتركيا، بالإضافة إلى دخول جزء منها عبر المناطق الحرة بشكل غير مشروع، وارتفاع أجور الشحن والنقل الداخلي لبضائعهم بسبب الواقع الأمني والحواجز، حيث باتوا الآن يتعاملون مع أشخاص بعينهم، (متنفذين على الحدود والحواجز)، يؤمنون نقل بضائعهم بتكاليف أعلى ولكن بشكل آمن ومضمون.
خدمات مقدمة عبر عقود
وقوانين مانعة!
يشار إلى أن القانون يمنع استيراد الألبسة المستعملة «البالة»، لأسباب تتعلق (بالصحة العامة وجهالة المصدر، إضافة إلى أنه أسلوب حمائي للصناعة الوطنية)، وبالمقابل فقد شرع افتتاح محال لبيع الألبسة المستعملة محلية الصنع فقط، ما يعني أن كل تلك الأسواق التي تتعامل بالبالة ذات المصدر الأجنبي عبر عقود من الزمن تعتبر مخالفة، على الرغم من الخدمات التي تقدمها، وكل ذاك العدد الهائل من المواطنين خلال تلك العقود التي استفادت من خدماته، ولبست مما يوفره لها بالطرق غير المشروعة، (ألبسة- أحذية- حقائب- ستائر- ...الخ)، يمكن أن يكون محكوماً بالأمراض، والأوبئة!، كما أن الصناعة الوطنية لم تتضرر خلال تلك العقود من التنافسية مع تلك الأسواق، بقدر تضررها من العديد من السياسات والإجراءات الحكومية، حيث أن كل سوق له رواده وزبائنه، بما لا يتعارض مع أداء الأسواق الأخرى عملياً، ناحية المواصفة والجودة والسعر، أسوة بأي سلعة أخرى لها أسواقها ومصادرها وزبائنها وأسعارها، ويبقى المستهلك هو الهدف الأول والأخير والمعيار الحقيقي لدوام واستمرار العملية التجارية والتنافسية، التي من المفروض أن تصب بمصلحته بنهاية الأمر، وقد لمسنا ذلك خلال السنوات المنصرمة حيث نافست صناعتنا المحلية بعض شبيهاتها الأجنبية المستوردة رسمياً، بل باتت مطلوبة للتصدير بنتيجة ذلك.
مطالب بقوننة الأمر الواقع.. ومستغلون
كما يشار إلى أن تجار الألبسة المستعملة أجنبية المصدر، متضررون أيضاً من ذاك المنع، وقد طالبوا مرات عديدة بقوننة عملهم وشرعنته، مبدين استعدادهم للالتزام بكافة القيود والشروط، وخاصة تلك المتعلقة بالصحة العامة، وتبيان مصادر تلك البضائع، بل حتى أن بعضهم طالب بمراقبة تجهيزها وتعقيمها وتغليفها في بلد المصدر، كشرط مسبق للموافقة على استيرادها، مع الاستعداد لتسديد كل الرسوم المترتبة جراء ممارسة هذا العمل التجاري، اعتباراً من الرسوم الجمركية، مع ما يعنيه من عائد اقتصادي فقدته الدولة عبر كل تلك العقود، وليس انتهاءً بالرسوم والضرائب الأخرى، ولكن دون جدوى!، مما اضطرهم وعبر عقود ليكونوا رهينة الكثير من المستغلين داخلاً وخارجاً.
كما طالب مؤخراً مدير الجمارك العامة بقوننة تلك التجارة، عبر السماح باستيرادها بشكل رسمي، ووضع الضوابط اللازمة لها، وقد عززت جمعية حماية المستهلك هذا المطلب، مشددة على الضوابط والتعليمات الخاصة بالصحة العامة.
عقود خلت وما زالت تلك الأسواق، على الرغم من مخالفتها بموجب القانون، تعمل من خلال سياسة الأمر الواقع، بنتيجة الحاجة للخدمات المقدمة عبرها لشرائح واسعة من المجتمع وخاصة الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، إضافة إلى أن خلفها العديد من حلقات الاستفادة غير المشروعة من وجودها واستمراره، اعتباراً من المستوردين في بلدان الجوار مروراً بشبكات التهريب، إلى الجمارك والمكافحة وشرطة البلديات، وليس آخراً تجار الأزمة الجدد، الذين دخلوا على خط تلك التجارة، حيث لكل منها أوجه استفادته المستمرة منها ومن أسواقها المنتشرة والمتزايدة.
سوق سوداء تحكمه السرية .. لماذا؟
عملياً ليس هناك بيانات عن حجم نشاط تلك الأسواق على المستوى الاقتصادي العام، على اعتبار أن تلك الأسواق تعتبر من الأسواق السوداء، المحكوم عليها بالتكتم والسرية، على الرغم من انتشارها واكتظاظها بشكل دائم، ولا عن الأرقام التقديرية حول حجم القطع الأجنبي الممول لتلك التجارة، ولا عن النفقات الإضافية المترتبة على التكاليف التي تستفيذ منها شبكات التهريب والفساد، الأمر الذي يعني أن تجارة كبيرة وأسواقاً بتعددها وانتشارها، هي خارج التغطية في مجمل أوجه العملية الاقتصادية ومراقبتها، علماً أن تعداد العاملين بتلك التجارة يقدر بعشرات الآلاف.
والسؤال: لماذا ومن المستفيد من عدم قوننة عمل تلك الأسواق خلال كل تلك العقود وحتى تاريخه؟!، طالما أن هناك هذه التغطية شبه الرسمية لعملها، رغم مخالفتها للقوانين، عبر شبكات استفادة واسعة من الفساد!، وطالما خدماتها مطلوبة ولا يمكن إغفالها، وخاصة للفقراء!.