على أبواب الصّيف: العبارة الذهبية دائماً...يلزمنا عاملاً صغيراً
انتهى موسم الدراسة وبعد أيام قليلة تنتهي الأيام التي سيحمل فيها (حسن) كتبه بعد أن يقدم آخر مواد الإعدادية، ومن ثم سيتوجه إلى حلاق الحارة الذي تعلم الصيف الماضي على يديه المهنة، التي قالت له أمه عنها أنها ستساعده على الحياة في حال فشل في دراسته، أو شاءت له الأقدار أن يخرج من المدرسة إلى سوق العمل.
أما شقيقه الصغير (محمد) الذي أنهى الابتدائية قبله، فبدأ دوامه عند بائع الخضار أبو عيسى، وفي المساء يعود ببعض الأكياس الصغيرة المملوءة بالخضار، وهي الأجر الذي يتقاضاه من الصباح الباكر وحتى الخامسة مساء.
أيقونة اسمها العامل الصغير
في طريقك بأسواق العاصمة تلمح هذ العبارة الذهبية الكثر انتشاراً (يلزمنا عامل صغير) فلكل المحال تبحث عن عامل صغير بمواصفات ذكية وأجر قليل ولا تأمينات، وهؤلاء موسمهم في الصيف، وإن امتلأت بهم الشوارع في الأزمة الكبرى الوطنية، وباتوا عمالاً و« لصوصاً» ومتسولين .
بائع الحلويات المتنوعة يضع اللوحة نفسها على واجهة محله من الجهتين، وأما لماذا الولد الصغير وحاجته يجيب الرجل: نحن نستخدم الأطفال الصغار لأنهم أكثر رشاقة من العمال كبيري السن المتفرغين للعمل في الفرن أو (البسطة)، ويراقبون حركة الزبائن خشية من السرقات، وأما الصغير فغالباً ما يعمل في نقل البضاعة وهي ليست ثقيلة، أو توصيل الطلبات الخارجية، وأجره غير مكلف، ونحن نشغّله لأنه محتاج، ويؤمن مصاريف الدراسة في العام القادم.
لماذا يعمل الصغار
بعيداً عن الأسباب التي يقدمها الباحثون ودارسو علم الاجتماع، والجهات الرسمية، من وزارات ومراكز بحث معنية، تبحث عن توزيع دراساتها للإعلام، فإن الحال على الأرض يقول: بأن هناك أسباباً فرضها الواقع الاقتصادي للناس الذين لم يعد بإمكانهم أن يرسلوا أبناءهم للمسابح والنوادي الرياضية، وأن يدفعوا لهم ثمن المثلجات والدورات التعليمية الصيفية.
أم رامي مطلقة تسكن في ريف دمشق: ابني في الصف الثامن وبلغ من العمر 14 عاماً وبإمكانه الذهاب والعودة من دمشق بالمواصلات العامة، ويمكن أن يتعلم مهنة تفيده بهذا الوقت اللعين، ولديه أحد أعمامه، الذي يعمل في سوق الحميدية، وفي السنة الماضية اشتغل معه على بسطة لبيع الثياب الداخلية والجوارب، وكان ينام في أحد المحال مع عدد من الصبية، ويأتي كل يوم خميس، ويشتري لإخوته بعض الحاجيات، وجمع مبلغاً جيداً اشترى به مستلزمات مدرسته.
أبو ضياء عاطل عن العمل وكان يعمل في مهن متعددة منها عامل بناء وبائع فلافل، لديه أربعة أولاد ذكور، أكبرهم طالب معهد والباقون يعملون في أعمال متعددة كلها عضلية، ويساعدون الأب في مصاريف البيت...يقول الأب: حاولت جاهداً أن أكمل تعليم أبنائي، ولكنهم خرجوا من الابتدائية إلى العمل، وبدؤوا بالعمل معي وهم الآن يعملون في ورش الأصدقاء، ومن لديه ورشة يأتي ليأخذهم إليها، وهي من المهن التي تراجعت بسبب غلاء مواد البناء، ولكنهم لا يتوقفون، فالناس ترمم بيوتها أو تبني غرفاً إضافية، وأما عن الدخل الذي يجنونه فهو ليس بالكثير رغم عملهم اليومي فالحياة صعبة وغالية.
أعمال شاقة
العمل لدى حلاق أو بائع خضار لا يمكن أن يؤذي الطفل، بل من الممكن كما يقول الأهل أن يتعلم مهنة صالحة للحياة، وأن يساهم في دعم ذاته وأسرته مالياً، ولكن ماذا عن المهن التي تضر بالصحة والجسد، كمهنة البلاط التي تبقي الطفل في وضعيات قاسية على عموده الفقري، أو ميكانيكي سيارات يأكل الشحم والزيت بدنه وثيابه.
حاتم في الثالثة عشر يعمل ميكانيكي سيارات منذ أربع سنوات، ويتحدث كالكبار بمصطلحات السوق الفنية والشعبية، وبعض أبناء الكار يسمونه (المعلم) نظراً لبراعته...يقول الطفل: أنا لا أحب المدرسة، وأحب أن أنام تحت السيارات، وأحب رائحة البنزين، وتركت المدرسة بعد موت والدي، ولدي أم وأختان صغيرتان، وبيتنا مستأجر بـ 10000 ليرة في الشهر فمن يصرف علينا.
في سوق باب السريجة السوق الشعبي المزدحم، لا يمكن أن تجد محلاً أو (بسطة) دون طفل يرتب البضاعة، أو يصيح بالزبائن أن يشتروا منها، وبعض هؤلاء أبناء أصحاب المحال فهنا للمهنة فلسفة التعلم منذ الصغر، وهؤلاء يعملون في نقل أكياس البطاطا، وتنزيل سيارات الخضار، وإفراغ صناديق (السردين والطون) والمعلبات الأخرى...الخ
أعمال مهينة
باعة يانصيب يدورون على الزبائن في المقهى، فهم نصف متسولين وعمال، وهؤلاء من الجنسين بملابس متسخة ووجوه شاحبة.
أمام مقهى الهافانا يضع ولد صغير صندوق (البويا)، ويبدو ولداً أنيقاً عكس أقرانه الذين يعملون بالمهن نفسها، ولكن مهنة مسح الأحذية ماذا ستعلم الصغير غير الإطراق إلى الأسفل والتعامل مع أحذية المتعالين.
فئة منتهكة
العمال الصغار من أكثر الشرائح حساسية، منهم قد يخرج ابن المصلحة الجيد إن كان معلمه ذا خلق، ولكن كثيرون سيخرجون من سوق متوحش، لن يبقي منهم سوى بقية إنسان كان قطعة هشة فلوثتها الحياة القاسية.
لا تنفع لإنقاذ هؤلاء الخطب الوزارية، والخطط المحنطة، ومؤشرات على أجيال تترنح، لأنها عاشت في الشارع وتربت على قيمه، دون أن تجد من يحميها في ظل زمن الفقر المدقع، والمؤسسة الرسمية التي لا تعمل.