مخالفات البناء تتوالد عشوائياتنا... سليلة الرشوة والإدارة الفاسدة
ليس وضعاً طارئاً، وليس مشهداً جديداُ، من استفاد منه ما زال موجوداً ويتحدث عن محاربته، ويعتبره قبحاً وطنياً، وإثماً لا يغتفر...
وهكذا تتوالد مخالفات البناء في بلد ساهم مفسدوه أكثر من أعدائه في رسم لون باهت له على الأرض، فالمناظر المتهالكة للبيوت، والخرائب التي فجأة تقفز لتصير أبنية لم تولد فجأة، ولكنها نتيجة فساد الضمائر المسؤولة ولو في شق صغير عن الجمال، ولكنها أبت إلا أن تحيله دمّلاً وقيحاً في ذاكرتنا وأمام عيوننا.
الحق على الأزمة؟!
جاءت الأزمة الوطنية لتكون الغطاء الذي يحجب ما سبقها من موبقات، ولتتستر على ما ارتكبه الفاسدون، وألصقوا بظهرها كل الشرور، وبعضهم تم غفران ذنوبه جميعاً، ونامت معه آمنة أموال الرشا والمخالفات، والإيعاز دون تواقيع لتجار البناء أن استمروا وأسرعوا.
التقرير الذي تداولته الصحافة المحلية يشير إلى أن أكثر 100 ألف مخالفة بناء في دمشق وريفها، ارتكبت خلال سنوات الأزمة، ويفصلها أحد مسؤولي محافظة دمشق: (تم ارتكاب المئات بل الآلاف من مخالفات البناء الطابقية، والأرضية، والتعدي على المسطحات الزراعية، وأراضي الحماية، وأراضي التنظيم في: مناطق (المزة 86، حي الورود، نهر عيشة، بساتين الشاغور، بستان الدور، الزاهرة، التضامن، بساتين برزة،، ودمر، عش الورور، الدويلعة)، وعلى الأملاك العامة، والخاصة).
المسؤول في المحافظة يؤكد أنه تم الاعتداء حتى على أملاك الغير من دون أي رادع أخلاقي
أو قانوني... والأسباب تعود لتقصير الدوائر الخدمية، وإلى الأزمة الراهنة.
مع كامل التقدير لهذا الاعتراف الرسمي إلا أن كل ما ذكره مسؤول المحافظة من مناطق لا تعدو أن تكون إلا مناطق مخالفات محضة، وبنيت على ما هي عليه قبل الأزمة بسبب الرشا والفساد المالي والأخلاقي، وانتهكت المساحات الخضراء وتم البناء في الأراضي الزراعية دون أن يقف أحد هؤلاء ويصيح بأنه من الجور تحويل العاصمة إلى كتلة اسمنت صماء وحارة، ولو يعود هؤلاء إلى ما كتبته الصحافة والنداءات التي أطلقتها لعرفوا مدى الجرم الذي ارتكب لمنافع شخصية وصغيرة.
الأزمة التي تتهم بأنها وراء استفحال المخالفات بريئة من هذا الإثم، وهي أقصى ما فعلته أنها سمحت بغض الطرف عنها قياساً لما يجري من انتهاكات كبرى.
تسوية.. نقدية
الحلول التي ستتخذها المحافظة لوقف هذا الاستنزاف الإسمنتي لمساحات البلد يأتي من خلال ما قاله مسؤول المحافظة: (المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق وافق على تسوية مخالفات البناء بأن يدفع طالب التسوية 50٪ من بدل التسوية وفق جدول حساب الرسم لحين صدور قرار التسوية).
هي الطريقة نفسها التي اتبعت دائماً عندما تتراكم المخالفات، وهي التسوية المالية، وأما المخالفة فهي واقفة تترنح وربما تؤدي إلى كارثة قادمة ذات يومِ نحس.
المكتب التنفيذي وافق؟.، وكأنه يملك أكثر من ذلك، ولكنها موافقة لحلول مؤقتة تعطي الحقّ لصاحب المخالفة كونه دفع تسويتها، وتمنع القانون من إزالتها كونه تم قبض الثمن أيضاً بالقانون.
إنصاف اعتيادي
ولا يمكن أن يمرر قرار ولو كان افتتاح دورة مياه دون أن يوصف بالمنصف والعادل والذي يخدم المواطن ويريحه، فالمسؤول الخدماتي يتابع: (قرار التسوية جاء لإنصاف المواطن عند فرض غرامة مخالفة بناء بحقه، لتكون المخالفة بعيدة كل البعد عن العامل الشخصي، وتقديرات لجان التخمين، وينظر القرار في المخالفات القابلة للتسوية وفق القوانين والأنظمة، وشروط التسوية، وضمن أسس وضوابط قانونية واضحة).
طبعاً يذهب الرجل إلى التفاصيل وهي لا تعني كثيراً فعلى الأرض ثمة واقع لا تجمله القرارات ولا العبارات المنصفة.
أنواع... وألوان
الخبير العقاري عمار اليوسف يؤكد أن:(أغلب هذه المخالفات تمت معالجتها بالتسويات وليس بالإزالة، وتتضمن مخالفات الفيلات زيادة في عدد الطوابق من الأعلى وزيادة عدد الطوابق السفلية من خلال زيادة الأقبية، ومخالفة في الوجائب والتوسع بها على حساب الأملاك العامة)...والذي يعرف مناطقنا الشهيرة بالزراعة يعلم علم اليقين كيف التهمت الأراضي الزراعية والبساتين لصالح البيوت والفيلات والمسابح الزرقاء.
وهنا وبعيداً عن مخالفات الكبار الشائنة، تبدو أيضاً مخالفات الصغار، لكنها وإن كانت مخالفة فإنها تبقى اضطرارية من أجل إسكان شاب للزواج، وتوسعة على العائلة، ولبناء منافع. وكان من واجب الدولة والبلديات أن تجد حلولاً من شأنها احتواء هذه الظاهرة عبر مخططات تنظيمية وإقليمية حقيقية، وتجديد قوانين البناء وناظمته، وتحويلها لأداة إصلاح الخراب لا زيادته.
لنتذكر.. معاً
بالتفاتة صغيرة إلى الوراء، سنتذكر معاً معامل الرخام في عربين، والتي التهمت الأراضي الزراعية وحولتها إلى أراضٍ بيضاء كلسية، وحولت نهر بردى إلى نهر طمي أبيض، وكذلك الدّباغات المخالفة التي حولته إلى مستنقع جلد قذر.
كل الأحياء المخالفة في مدينة قطنا والتي أدت إلى تلوث مصدر مياهها الوحيد (رأس النبع) بسبب اعتماد أهالي هذه الأحياء على الحفر الفنية، ووصلت حينها إلى أكثر من 300 حفرة فنية ولم تحل المشكلة إلا بمشروع صرف صحي للمنطقة بالكامل.
البناء الذي تم هدمه في دف الشوك بعد طابق سادس مخالف أدى إلى خسارات مادية للأهالي بسبب جشع تجار البناء، وتغاضي رئيس البلدية والمحافظة ومهندسيها عن هكذا مخالفة.
لنتذكر معاً المخالفات في (قاسيون- كفرسوسة- ضواحي العاصمة بأكملها) وأيضاً مخالفات الريفين الغربي والشرقي للعاصمة وكلها في أغلبها تعود إلى تعيين رؤساء مجالس محلية بلا ضمير وطني، وشخصي، ومكاتب فنية عاقرة، وأنه ذات عام ليس بالبعيد تم إعفاء أكثر من نصفهم لعدم الكفاءة والفساد.