من الذاكرة: بين البلسم والمقلى
أجمل الذكريات تلك التي طبعتها الطفولة في صفحات الذاكرة ولهذا فنسمات عهد «الولدنة» عندما ترف ينتعش الفؤاد ومن منا لا تثيره الذكريات وهو يردد ما قاله أحمد شوقي:
ألا حبذا صحبة المكتبِ
وأحبب بأيامه أحببِ
ومن أيامه الرحلات المدرسية، وواحدة منها رحلة حملتنا إلى حمامات الحمة على الحدود مع فلسطين في أواسط خمسينيات القرن الماضي، فقد توافد حوالي خمسين طالباً من زملائنا في معهد العلوم والآداب في الثالثة صباحاً لنستقل «البوسطة» المتوقفة بين بناء المعهد وجامع «دك الباب» في عرنوس – ذلك الجامع الذي التهمته النيران فيما بعد وزالت معالمة تماماً وغدا بعضاً من الماضي – صعدنا إلى البوسطة بإشراف المعلمين محمد حيدر ونصر الدين البحرة ووليد مدفعي والموجه الفنان محمود جبر والمحاسب أبو صبحي، لننطلق إلى القنيطرة ثم إلى الحمة ونحن ننشد ونغني ونستمع إلى نكات وفكاهات، ونجري مسابقات الشعر – يبدأ أحدنا بقول بيت من الشعر، ليتابع غيره بقول بيت آخر يبدأ بالحرف الأخير من البيت الأول وهكذا إلى أن ينحصر التنافس بين اثنين قبل أن ينتهي بفوز أحدهما، وقد كنت «وبكل تواضع» الأول في أكثر المسابقات – وعندما وصلنا إلى الحمة – وعلى ما أذكر كان الضابط أمين الحافظ حينها قائد المنطقة، فقد شاهدناه وهو يتجول بثيابه العسكرية في ساحة البلدة – انطلقنا بكل الرغبة إلى الحمامات الكبريتية وهي ثلاثة «البلسم والريح والمقلى» الأول والثاني متوسطا الحرارة أما الثالث فهو شديد السخونة، من ينزل فيه يتوخى الحذر والهدوء بحركته ويقف بعدها ساكناً متحملاً تلك الحرارة لا يعكر صفوفهم إلا اندفاع شاب متهور يقفز إلى وسط المياه التي تضطرب فتلسع بحرارتها أجساد المتحممين الذين يخرجون من المياه بسرعة وهم «يلعنون من خلّف ذاك القافز المزعج»
أمضينا يوماً حافلاً بالنشاط والسرور أنا وزملائي وليد مارديني وأكرم فرارة وعلي أبو عجيب وسهيل الفيل وعبد الرؤوف حاج حسين وعبد الرزاق عرفات...
وحين أتذكر الرحلة تنتصب أمام عين خيالي صور المعلمين والزملاء الطلاب، وتطفح في القلب سعادة لا أحلى ولا أجمل منها.
لقد أفلح الشاعر الأندلسي بطرح سؤاله الصائب:
«هل تستعاد أيامنا في الخليج؟»
والجواب: الأيام لا تستعاد.. لكن الذكرى.. تستعاد