«دودة النفط» تهدد ما تبقى من الحياة في ريف الحسكة
يعيش سكان الريف الواسع في محافظة الحسكة، نوعاً من الازدهار الاقتصادي النادر الذي لم تعرفه المنطقة البائسة طوال عقود من التهميش الحكومي، بعد أن انخرطت العائلات الريفية في مهنة بيع ونقل وتصفية النفط، التي تؤمن لهم مردودات مالية عالية لم يعتادوا عليها، رغم المخاطر العالية التي ترافق هذه المهنة الجديدة التي أفرزتها الأزمة السورية.
ووجد كثير من أبناء ريف الحسكة في مهنة «النفط» الجديدة، طوقاً للنجاة من الموت جوعاً، بعد أن فقدت كثير من العائلات بشكل متتابع، عملها في لبنان وريف دمشق ودرعا خلال سنوات الأزمة السورية الأربع، وهي أماكن استقطبت خلال سنوات الجفاف الماضية أغلب العائلات الريفية في المحافظة التي هجرت أراضيها التي لم تعد تسد الرمق.
خط إنتاج قاتل
ورغم المبالغ المالية العالية التي يحصل عليها الأهالي من مهنتهم الجديدة، إلا أنها تشبه صحوة الموت الأخيرة، حيث يدرك الأهالي أن التلوث البيئي الرهيب الذي تسبب به النفط وتكريره بطرق بدائية، كفيل بالقضاء على حياة الإنسان والحيوان وحتى الأراضي الزراعية في الريف.
يتوزع أبناء الريف في تخصصات متنوعة لمهنتهم الجديدة، حيث يقوم البعض بشراء النفط من الآبار بشكل مباشر، ومن ثم نقله إلى المصافي الأهلية (الحراقات)، التي تبدأ بتكريره عن طريق غلي النفط ومن ثم استخراج المشتقات النفطية رديئة الجودة بشكل متتابع، تحت غيمة عملاقة من الدخان الأسود، وبعدها يبدأ بيع المشتقات النفطية بشكل منفصل لمجموعة أخرى.
وتسبب أكثر من عام على انتشار هذه المهنة، في تحويل ريف المحافظة الأخضر، إلى سواد شمل كل شيء، ومع مرور الوقت، تحولت وجوه الفلاحين البائسة إلى سوداء ذابلة، لكن أصحابها سعيدون طالما أن جيوبهم مليئة، وقادرون على تأمين متطلبات الحياة القاسية.
دودة النفط القاتلة
وجد «حسين» نفسه أمام تحدٍ صعب، فلم يتمكن من دخول لبنان الذي اعتاد اللجوء إليه للعمل منذ سنوات طويلة، فقرر دون تردد العمل في مهنة النفط الجديدة، وبدأ كعامل في نقل المشتقات النفطية من الحراقات، إلى سوق ناشئ في إحدى القرى الحدودية مع العراق، حيث يتجمع تجار النفط القادمين من العراق وبعض المحافظات السورية.
ويحلم «حسين» الذي يوحي شكله بالموت بعد فترة قصيرة من العمل تحت غابة الدخان الأسود، أن يجمع مبلغاً مالياً من عمله، ليشتري سيارة نقل صغيرة في المستقبل، يطلق عليها محلياً اسم «دودة»، لتمييزها عن الصهاريج الكبيرة التي تسمى «حوت»، وهو أكبر حلم للفلاحين نظراً للمردود العالي الذي يجنيه صاحب الحوت.
ويمثل «حسين» نموذجاً للحياة الجديدة في ريف الحسكة، ولاسيما الجنوبي منه، ورغم أنه سمع بمخاطر النفط حتى من قبل انفجار الأزمة السورية، والدراسات التي تتحدث عن أمراض السرطان في المناطق السكنية القريبة من حقول رميلان، إلا أنه مصر على العمل في غابة الدخان الأسود الكثيف الذي أصبح أبرز مميزات حياة الفلاحين.
تساؤلات ومخاطر
ولايعرف العاملون الجدد الكثير عن أسعار النفط، ولا منظمة أوبك، لكن تساؤلاً مستمراً يطرحونه فيما بينهم عن إيرادات النفط العالية التي تجنيها الدول، والحروب التي يتسبب بها النفط، طالما أنهم شهدوا بأنفسهم اشتباكات عنيفة في منطقة يباع فيها برميل النفط بسعر 16 دولاراً فقط.
ويمكن التنبؤ بمستقبل الحياة في ريف الحسكة، خزان سورية من القمح والشعير والقطن، من خلال السنوات القليلة المقبلة، بالاستناد إلى الدراسات العلمية لمخاطر النفط والغازات المنبعثة منه، والتي تؤكد أن انتحاراً بطيئاً فرضته الأزمة السورية على السكان.