من الذاكرة : حضن الوطن

من الذاكرة : حضن الوطن

حدثٌ جرى في أحد أيام حزيران عام1955 , ظل راسخاً في الذاكرة, ولست أنساه بتاتاً, فأثناء اجتماع لفرقتنا الحزبية- عصر ذلك اليوم- في بيت الرفيق «درويش» لفت انتباهي منظر عصفور لمحته من خلال فرجة بستارة النافذة, على غصن شجرة ينقر ورقة خضراء, وفوجئت بسكرتير الفرقة الرفيق سعيد وهو يسرع إلى النافذة ليسدل ستارتها بشكل كامل, ويوجه كلامه إليّ مباشرةً: «لا يصح أن تسترق النظر إلى ساحة البيت, فهناك أهل رفيقنا «درويش!», فأحسست بطعنة أصابتني في الصميم وصحت: «أنا لا أفعل ذلك أبداً, فأهل رفيقي هم أهلي, وإنما كنت أنظر إلى عصفور يأكل من أوراق الشجرة», وسارع بعض الرفاق للدفاع عني, وتحول الاجتماع برمته إلى الحديث عن مفهوم الشرف الذي أجمعنا على ضرورة الالتزام به, وإدراكنا أنه كل لا يتجزأ

فالشريف شريف في كل المواقع والأحوال, لقد توضح الأمر وزال كل التباس, وختم الرفيق سعيد الاجتماع بعد أن حدد مكان وزمان الاجتماع القادم بقوله: «شرفنا الأكبر والأعظم يا رفاق هو وطننا وشعبنا, فلنحافظ عليهما بكل ما نستطيع..». فكانت هذه الكلمات درساً حفظته ومارسته وما زلت أمارسه قولاً وفعلاً على أرض الواقع.

 وقبل يومين ضمنا لقاء بمجموعة من الأصدقاء متعددي الاتجاهات و«المشارب» في بيت أحدهم, وبالمناسبة فقد غدا لقاؤنا منذ فترة طويلة أسبوعياً أشبه ما يكون باجتماع الفرقة الحزبية, ولكن دون سكرتير أو جدول عمل مكتوب, والإطار العام له الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة, وقد تركز النقاش حول ما نقلته لهم عن مضمون افتتاحية العدد الأخير من قاسيون التي يتابعها أكثر من نصفهم, حول ضرورة أن يأخذ السوريون زمام المبادرة السياسية داخلياً, بين كل المستعدين للحل السياسي سواء من النظام أو المعارضة أو المسلحين السوريين, عبر طاولة حوار جدّي وندّي ومتلفز, وهذه مسؤولية الجميع, وهي فرصة ماتزال قائمة حتى الآن ينبغي ملاقاتها وعدم هدرها.

لقد توافق الحضور على أن الهدنات والتسويات أمور هامة وضرورية, على أن تكون خطوات على طريق المصالحة الوطنية الشاملة التي يتطلع ويعمل من أجلها كل وطني غيور, همه الأول والأبرز هو مصلحة الوطن والشعب بعيداً عن أي مسعى لتجيير ذلك لمصلحة فرد أو مجموعة أو طرف. 

وكان اللافت التعليقات على تعبير «العودة إلى حضن الوطن» الذي كثر استخدامه على ألسنة متصدري الشاشات المحلية «على الطالع والنازل» وكأنهم المالكون الحقيقيون لـ«طابو» الوطن والوطنية, بكل استعلاء وفوقية, وهم يتحدثون عن التسويات بصفتها «تمام المصالحة الوطنية» ويختمون تنظيراتهم بقولهم «إذا اعترف المسلحون بخطئهم وعادوا إلى حضن الوطن, فسوف نقبل بهم», ناسين ومتناسين خطأ وأخطاء الجانب الآخر, وأن حضن الوطن ليس لدى طرف من الأطراف, بل إن الجميع في حضن الوطن, عدا أعداء الوطن من الداخل والخارج, وحضن الوطن واحد كالشرف لا يتجزأ.