هدن و«تسويات».. خطوات لا بدّ من استكمالها
مازال الإعلان عن هدنة في بلدة هنا أوهناك ينعش شيئاً من الأمل في قلوب السوريين، لكن حال أغلب المدن التي شهدت هذه الهدن حتى الآن، لا يبشر بالكثير. فالواقع المزري للبلدات التي شهدت الهدن والتسويات دفع بالكثير من السوريين بزيارة تفقدية إلى مدنهم بهدف الاطمئنان وتفقد حال ممتلكاتهم مع تأجيل العودة والاستقرار فيها إلى حين الانتهاء نهائياً من عمليات إزالة الأنقاض وإعادة الخدمات إلى تلك المدن التي يمكن إطلاق تسمية المدن المنكوبة عليها.
يسيطر الحذر على الجو العام للمدن التي شهدت هدناً أو تسويات، حيث شهدت معظمها عودة سريعة في الأيام الأولى التي يتم الإعلان فيها عن هدنة أو تسوية وذلك من أجل أن يتفقد الأهالي منازلهم وأملاكهم، ثم يخرج معظم الذين دخلوا وذلك لأسباب عديدة، وحمص هي خير مثال.
عودة حذرة
يقول لـ«قاسيون»، الصحفي محمد الضاهر «شهدت أحياء حمص القديمة اتفاقاً اقتضى بخروج المسلحين منها بأسلحتهم الفردية إلى بلدة الدار الكبيرة ومنها إلى الريف الشمالي، على أن يبسط الجيش سيطرته على هذه المنطقة التي كانت مقراً لعمليات المسلحين، وبتاريخ 9/4/2014 كان خروج آخر مسلح من أحياء المدينة القديمة وهي (القرابيص- القصور- جورة الشياح- بستان الديوان- الحميدية والصفصافه- بني السباعي- وباب هود- باب التركمان- وادي السايح- باب الدريب- والورشة)، وكان العدد حوالي 1950 مسلحاً تم نقلهم بباصات حكومية على دفعات وبإشراف وفد من الأمم المتحدة ووزارة المصالحة الوطنية. وفور دخول الجيش السوري إلى المنطقة دخل النازحون إلى منازلهم وبكثافة غير مسبوقة، إلا أن النقص في الخدمات وضعفها أدى إلى عدم عودة العديد من الأهالي إلى منازلهم في حمص القديمة».
ويتابع محمد الضاهر حديثه قائلاً «إن محافظة حمص قامت بإدخال الورش التابعة للمؤسسات الحكومية الخدمية بغية توفير الحد الأدنى من الخدمات، لكن هذه الورش لم تستطع القيام بأعمالها كما هو مطلوب وذلك بسبب المصاعب الكثيرة التي اعترضت عملها، ومن أبرز هذه المصاعب الدمار الكبير الذي شهدته البنية التحتية بالإضافة إلى كثرة الخنادق والأنفاق التي حفرها المسلحون في شوارع هذه الأحياء».
دراسة البنية الجيولوجية للأراضي
وأضاف الضاهر «إن معظم الأحياء الحمصية التي شهدت اتفاق المصالحة هي أحياء غير منظمة بشكل يناسب التطور العمراني، فمعظم شوارعها ضيقة ومتشعبة بشكل يصعب دخول الخدمات إليها بيسر بالإضافة إلى أنها كانت ساحة معارك، فمن الضروري جداً دراسة البنية الجيولجية للأرض كونها أصبحت مخلخلة بسبب الحفريات تحت المنازل، فأصبحت المنازل بحد ذاتها تشكل خطراً على القاطنين فيها، لذلك قد تتأخر خطوة البدء بأعمار هذه الأحياء التي رصدت لها الحكومة الحالية مبلغ 6.5 مليار ليرة».
وتابع حديثه قائلاً «إنه رغم الأسباب التي ذكرتها فإن أحياء حمص شهدت عودة أكثر من 700 عائلة- حتى ساعة إعداد هذا التحقيق- فضلت الإقامة في هذه الأحياء، حيث قامت المؤسسات الإنسانية كالهلال الأحمر وبعض الجمعيات الخيرية بتقديم المساعدات الفورية كالماء الذي تم إحضاره بالخزانات إلى الأديرة والكنائس، بالإضافة إلى الأغذية والشواحن الضوئية، لكن الكثيرين أكدوا أنهم سيعودون فور عودة الخدمات التي مازالت غير متوفرة في تلك الأحياء، كما أن هذه الأحياء ممتلئة بالدمار والأنقاض التي تحتاج إلى وقت لإزالتها والبدء بإعادة إعمارها».
وفي سياق آخر وحسب روايات الأهالي في مناطق عديدة من محافظة حمص مثل «الزارة- قلعة الحصن- ..»، «لم يسمح لهم حتى الآن بالعودة إلى مناطقهم رغم خروج المسلحين، لا بل تم (تعفيش) ما تبقى من أدوات هذه المنازل من قبل بعض العناصر المسلحة الموالية، في حين وصل الأمر ببعض هؤلاء العناصر إلى زراعة أراضي المواطنين من أبناء هذه المناطق، لحسابهم الخاص..».
العودة وواقع الحال
ترابط «أم بشير» مع زوجة ابنها وأطفاله على مدخل مدينة المعضمية إلى حين أن تسمح لهم السلطات المختصة بالدخول إلى المعضمية.
تقول أم بشير «لقد عدنا إلى بيتنا بعد الإعلان عن الهدنة بأسبوع واحد، لنجد المنزل قد تضرر بشكل جزئي كما تم نهب وسرقة محتويات المنزل من أثاث وأدوات كهربائية وملابس. ورغم هذا فضلنا العودة لأننا لم نعد نملك المال لدفع الأجارات المرتفعة»، وأضافت «واليوم يعمل ابني في إحدى الورش الصناعية ويبيت فيها، وأخرج مع زوجته كل فترة كي أشتري حاجياتنا من المواد الغذائية وغيرها من الاحتياجات التي لا توجد داخل الحي، وإن وجدت فإن أسعارها تكون مضاعفة عن ما هي عليه في الخارج».
وتتابع أم بشير «نحن نعاني من انقطاع التيار الكهربائي وكذلك المياه، وهناك دمار وأنقاض يجب إزالتها لكنها لليوم مازالت موجودة»، وتضيف « أعرف عدداً كبيراً من الجيران يرغبون بالعودة إلى منازلهم لكن عدم توفر الخدمات من كهرباء وماء وغيرها يجعلهم يترددون في العودة».
مصالحة على وقع الانتظار
وبدورها تنتظر أم سميح وأبناؤها انتهاء الامتحانات المدرسية الرسمية من أجل العودة إلى قريتهم في محافظة القنيطرة التي شهدت مصالحة قبل ثلاثة أشهر مضت.
تقول أم سميح «سنعود إلى قريتنا التي لم نزرها منذ عام ونصف العام، حيث عاد زوجي لوحده إلى القرية بعد عقد الهدنة ليتفقد المنزل والأرض، فوجد المنزل بخير لكن أراضينا احترقت، وصار يعود كل يوم خميس ويبقى حتى يوم السبت من كل أسبوع لأنه موظف، كما توقفت المدارس وغيرها من الخدمات في قريتنا، لذلك لن يتمكن الأولاد من متابعة دراستهم»، وختمت «أم سميح» حديثها بتهكم «في إحدى المرات منع زوجي من الدخول إلى القرية بحجة أنه موظف لدى الدولة».
الواقع المتشابه
يجمع المدن والبلدات، التي شهدت هدناً ومصالحات وطنية، واقع متشابه حيث يفتقد معظم هذه المدن إلى الخدمات الأساسية للإقامة كالكهرباء والماء، وذلك لأسباب عديدة أبرزها وقوع هذه المدن في محيط لا يزال غير مستقر مما يصعب عملية دخول ورش الصيانة والإصلاح، كما أن الأوضاع الأمنية لا تزال تشكل قلقاً كبيراً لدى العديد من أبناء تلك المناطق، حيث منعت العناصر المسلحة في بعض القرى والمناطق العديد من الشبان والعائلات من العودة إلى منازلهم، كما قامت بعض العناصر المسلحة التابعة بشكل أو بآخر للحكومة، قامت بأخذ منازل ومساكن لعائلات كانت محسوبة على المعارضة وحولتها إلى مقار خاصة بها، بحسب أهالي تلك المناطق.
المصالحات «الجزئية»!
صرح أحد الأشخاص العاملين في مجال المصالحة الوطنية فضل عدم ذكر اسمه في ريف دمشق لـ«قاسيون» قائلاً «إن معظم هذه الهدن هي قابلة للانهيار بأي وقت، وذلك بسبب غياب شخصيات لها اعتبارها ووزنها وتأثيرها على الأطراف المتنازعة، حيث عقدنا أكثر من هدنة في عدد من البلدات لكن الهدنة لم تصمد حتى نخرج من المنزل الذي كنا نجلس به»، ويتابع «انسحب عدد من الشخصيات الذين كانوا يعملون في المصالحة وذلك بسبب التهديدات التي كانت تطالنا من الطرفين بحرق منازلنا وخطف أبنائنا ونسائنا إلى محاولات القتل وحتى القتل في بعض المرات».
وعلى العموم تعتبر هذه الهدن خطوة متقدمة في الاتجاه الصحيح تؤكد وجود خيارات أخرى غير استمرار الحرب والصراع المسلح، وتفتح الباب أمام انعطاف في مسار الأزمة، الأمر الذي يفرض على كل القوى الوطنية في مختلف المناطق تعميمها، وتعميقها، ولجم القوى المتشددة في الطرفين التي تحاول إجهاض هذا الخيار.