من الذاكرة : دفقة وفاء
مررت بسوق الخياطين، فأعادتني الذاكرة إلى عهد الصبا، حين كنا أطفالاً كنا نرتدي «القُمباز» وهو شبيه بـ «الجلابية» ثم بدأ ارتداء البنطلونات الجاهزة القصيرة والطويلة، والآن تترسم في عين خيالي صورة أول بنطال «تفصيل» ارتديته، وكان بشيّال وليس بمحزم، وتفصيله كان بداية تعرفي بأول خياط رجالي ومحله في سوق الحميدية مقابل صالون بكداش لبيع البوظة، وهو الخياط الرفيق أحمد صالحاني بجسده النحيف، والمسنّون يذكرون أن أكثر محلات الخياطين كانت في «نصاصي» فوق المحلات التجارية في الأسواق الأساسية كالحميدية وتفرعاته.
وغدت معرفتي بمحلات الخياطين تتسع باستمرار، والدافع وراء هذا التوسع كون ارتداء طقم جديد بمناسبة الأعياد مدعاة لنوع من التنافس بين الأصدقاء وحتى الكبار، إضافة للشعور الغامر بالسرور حين يحس المرء أن الطقم «لابق له»، وكل واحد منا يفاخر بخياطه، إلا أن معرفتي بالخياطين لم تقتصر على اتقان التفصيل والخياطة، بل تعدت ذلك إلى معرفة برفاق خياطين مناضلين في صفوف الطبقة العاملة والنقابات، وهم كثر، وأذكر منهم الأخوين سعد الدين وعبد الكريم اللو، والثاني كان هتّاف المظاهرات التي يقودها الحزب في المناسبات الوطنية والطبقية، يعتلي أكتاف الرفاق هادراً بصوته القوي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، وفي سبيل حقوق الكادحين. ومنهم أيضاً الخياط النسائي الرفيق شكري صدّيق «أبو خالد» ومحله في منطقة عرنوس مقابل استديو المصورة القديرة إيلين ميشيل عيسى، وأذكر أنه وضع على بللور محله صورة كبيرة للرفيق خالد بكداش خلال انتخابات عام 1954.
والرفيق شكري هو أحد أعضاء أول فرقة حزبية في حينا على سفح قاسيون، وبقية أعضاء الفرقة هم الرفاق حسين عاقو وإبراهيم بكري وبهجت قوطرش وعمر سوركلي، كما أذكر من الرفاق الخياطين إبراهيم قصيباتي وسليم العايق وعمر قطرية وسعيد اللحام وجوزيف شاغوري «الذي أصيب برصاصة خلال هجوم الرجعيين على مكتب الحزب في حي المزرعة عام 1947 يوم استشهد الرفيق حسين عاقو مدافعاً عن الرفاق، وقد غادر الرفيق جوزيف بعدها إلى بيروت وفتح محلاً للخياطة، وتعرض محله لهجوم عناصر من حزب الكتائب وأحرقوا كل ما فيه من جوخ وقماش ولم يسلم من الحرق إلا «توب» واحد أحضره حين عاد إلى دمشق وأهداه إلى أهل الشهيد حسين عاقو»، ومصطفى عبد العال وعبد الوهاب ظاظا رئيس اللجنة النقابية لعمال الخياطة وعدنان الحلبي «أبو عصام» ومحمود أسد وعادل ظاظا وعلي صندوق و...
وقد تعرض هؤلاء الرفاق للسجن والتعذيب، فلهم جميعاً، ولكل من بنى لبنة في صرح الحزب الشيوعي السوري أقول ما قاله الشاعر:
رضعتم حليبَ الشعبِ يُعطي زنودكم
جداول عزمٍ في مداه تفورُ
حكاياتكم آلام عُمْرٍ نسيجها
فهل تُنتسى؟.. درب الكفاح مريرُ
وهذي دروس الأمس ملك لعاقلٍ
يَبيْن بنور الفكرِ أين نسيرُ؟