انتظارات
تتأبط العجوز يد زوجها المترنح وقت الظهيرة في الجسر الأبيض، تسأل المرأة الناضجة بائعة الأشياء النسائية الصينية عن (صدرية) بقياس 95، وأما العاشقة التي تتزين بكامل عشقها فتمشي بخيلاء فرس ذاهبة إلى شريكها الدافئ.
لم تتغير الحياة في هذه المدينة كثيراً، فالنسوة يمارسن التحضيرات المعتادة لمواسم العشق والتزاوج، وهذا كله وسط جمود حركة الشراء والبيع، والتنزيلات، وصراخ (الشقيعة) على المارة بأن يتفضلوا فقط للفرجة.
هنا في المدينة التي لا تستسلم، والتي ربما نالها بعض النعاس لكنها مازالت ساهرة على إيقاع حياتها التي تنوء بالتاريخ الجاثم على جدرانها في الحمراوي والقلعة والأبواب السبعة، وحتى ما ينام تحت ترابها المحلى بالحضارات الزائلة.
هنا في هذه المدينة، تبحث امرأة عن قلب رجل ينبض، أو مواعدة سريعة تحت درج بناء موارب، والخوف طالما أجج بشبق حاجات البشر للعناق والتواصل، أما الذكر الملسوع فيدور كزنبور هارب في الحر.. في هذه المدينة يسكن الحب على الألم.
المشاوير الهانئة مؤجلة بين خبرين، بين فسحتين على فضائتين، بين طلقتين لا تصيب قلباً طائشاً، وثمة من يسترق في اللحظة هذه قبلة بين مشهدين مؤلمين، وثمة من يقدم وردة حمراء بين تشييع وآخر.. هنا في هذه المدينة، ثمة من يريد الحياة رغم الأسى.. وثمة من يتشظى بين رأيين، بين رأسين، بين فكرتين على إيقاع الأهواء والاصطفافات، بين شارعين لا يلتقيان لكنهما يقودان إلى الفكرة الأعلى، الفكرة التي يظن كل شارع أنه والدها وابنها... أما في الظل، عندما تنكسر الشمس ها هنا ثمة امرأة أخرى تتسوق أحزانها.
هنا وهناك، على هذا الأديم النازف نساء لا أسواق لهن، لا ليال تورق فيها أنوثتهن، بل على العكس تثور فقط نزعة الصراخ الذي يشق أيامنا بعتمة الموت، أمهات على شفا قبر شهيد غيبته خيارات البقاء، أمهات يلدن الخوف على صغار لم يروا أفلامهم الكرتونية، صغار أرغموا على حضور الجنائر.
ثمة أنوثة فقدت من الهول كل أساور الخصب، ومراهقات يحلمن بأصوات الطلقات بدلاً من الفرسان والأحصنة، بهول الخراب بدل قبلة ابن الجيران، ورفيق المدرسة، وابن العم الزوج المؤقت، وثمة طفلة تذهب إلى مدرستها على صوت محطة إخبارية.
هنا وهناك وعلى اتساع الشوارع وتعددها وتنوعها.. ثمة نسوة لا يودعن الدموع، ولا يرتشفن القهوة مع أزواجهن، ولا يعرفن إلا طعم القبلات على الجبهات، وأضعن في غمرة التدافع طعم قبلات شفاه ذبلت من مفاجأة الموت.
اليوم أكثر من نصفنا هنا.. يتألم أو يموت، يبكي ويودع بصمت، يمسك حفنة تراب ويرشها على الرأس بما يشبه إعادة استنبات الراحلين، وإغواء الموت بالرحيل، واليوم فقط تهز الأمهات السوريات نعوش الأبناء (أيّاً كانوا)، والعاشقات السوريات يزرن قبور أزواج كانوا، وأما الصغيرات فيبكين آباء وإخوة لم تسعفهم الحياة بالبقاء.
على هذا الأديم النازف الذي يسمى وطني.. تحيا الحياة بكل ما فيها، وتستمر المضاربة، ورغبة التاجر، وتسوق الفقير، ومحاولات اللصوص، وصلوات الأمهات وأدعيتهن، ورجاءات الآباء من رفاق السوء والاستعداد للامتحانات، وعدم التأخر في المساء.
اليوم استيقظت على كابوس طفلي المذعور، وبالأمس حدثني صديق عن كابوسه، وجارتنا تحدث شريكاتها في البناء عن ليال لا نوم فيها، وأمي تتصل بأبنائها وبكل من تحب: هل وصلت إلى البيت؟، وجاري يفرك يديه عند كل خبر ويسأل: كأنها انتهت؟.
في كل هذا الأديم النازف ثمة من ينتظر أجوبة قاطعة.. عن الحياة.