ما أطيبك يا كرز...!!
جنينة النعنع، واحدة من المساحات الخضراء التي كانت منتزهاً جميلاً داخل مدينة دمشق قرب محطة الحجاز.
تمتد ما بين أوتيل أوريان بلاس (فندق المشاهير من الحكام المحليين والوافدين) وبين الإرث العتيق تكية «السلطان سليم» على الجانب الغربي لنهر بردى والجانب الشرقي لنهر بانياس، تليها مرجة «الحشيش» التي أضحت ملاعب لكرة القدم والسلة ومن ثم صارت موقعاً لمعرض دمشق الدولي، ثم جاءها مقاولو البناء المتواطئون مع جهات رسمية منوط بها حمايتها، كفعلهم في حديقة المنشية التي صارت فندفاً لـ «أمير سعودي»، وكفعلهم في بساتين دمشق وغوطتها، وقد أعمت عيونهم وقلوبهم إغراءات المال الفاحش وإثراء النهب الواسع.
والذاكرة اليوم تعود بي إلى أواخر أربعينيات القرن المنصرم، حيث بدأت «الكراجات» تحتل أرض جنينة «النعنع» الخلابة، وكان والدي يومها يعمل في «عالم السيارات» ويشرف على مغسل للبوسطات وسيارات الشحن، وكان يعمل معه شاب من قرية «عرنة» الغافية على سفح جبل الشيخ، وقد حمل إلى والدي في يوم من الأيام سلة قش مليئة بالكرز الشهي، الذي التهمت منه في «غفلة» من والدي كمية قاربت خمس السلة، وحين فكرت بما فعلت أصابني الارتباك! غير أن الحلاق الشاب أمام دكانه قرب المغسل أنقذني، فأزاح الكرز ودس كمية من أوراق الشجر ثم أعاد ترتيب الكرز على سطح السلة، وهذا الأمر لم يكتشفه أبي إلا حين حملنا السلة إلى البيت وأفرغها في صينية كبيرة فظن أن من أهداه السلة قد وضع هذه الأوراق، وقد أقلقني هذا الظن الظالم فسارعت إلى الاعتراف والتصريح بما فعلت أي بما أكلت.. وتقبل والدي هذا «الاعتذار الطفولي» وسامحني.
والمرة الثانية من «ذكريات الكرز» فقد حصلت في أوائل ستينيات القرن العشرين، يوم قمت مع عدد من الأصدقاء برحلة إلى قرية «عرنة» للتنزه في ربوعها الخلابة، ودخلنا إحدى الاستراحات وتحلقنا حول طاولة خشبية مستديرة نتسامر بانتظار إعداد الغداء والشراب، وبكوني هاوياً للشعر دغدغت مشاعري رغبة جامحة بكتابة قصيدة، فاستأذنت الأصدقاء لبعض الوقت، وخرجت إلى الطريق العام الخالي من المارة لأجلس على حافة مرتفعة في ظل شجرة وارفة، وبيدي القلم مترقباً الإلهام، وطرق سمعي صوت حديث بين شاب يسير على الطريق وفتاة تواكبه من البستان، وتوقفا على مقربة مني ليتابعا حديثهما العذب، ولم يكن وجودي قريباً منهما ليشكل لهما ـ كما يظهر ـ أي قلق فأنا غريب عن القرية وأهلها. وتوقف حديثهما الغزلي حين أحسا بأصوات لمارين يقتربون، وفي وداع سريع ابتعد الشاب، وكذلك الفتاة إلا أنني ناديتها «يا صبية» وسألتها بعد أن عرفتها أني دمشقي واكتب الشعر وقد بهرني حديثهما العفوي الصادق، عن «قصتها» مع الشاب، فأوضحت لي الأمر على الشكل التالي:
إنها تحب الشاب والشاب يحبها وقد تقدم إلى طلب يدها من أبيها مالك البساتين، فرفض طلبه بحجة أنه شاب جاهل. فسألتها ما المقصود بمعنى «جاهل»؟ فقالت هو مثلك ليس «متديناً»، فقلت لها: إني متزوج وعندي طفل جميل، فانطلقت إلى داخل البستان، وانطلقت أنا إلى كتابة القصيدة.
وحين نهضت لمغادرة المكان نادتني الشابة وأعطتني سلة كرز صغيرة هدية لزوجتي وابني. ومن واقع ذلك المشهد الإنساني النبيل لمحبين شابين صغيرين تنكر لهما العرف والتقليد والعادة، كانت «القصيدة الكرزية» التالية:
حبيبي لأعطي أحاسيس قلبي نجيمات حبٍ
أداري قصيدي... وأنسلّ خلف القوافي..
أُمنّي الحروف الغوافي.. وأخجل.. لأني أقود السبايا
حبيبي أحاسيسنا دفء مشتل.. تمسّ الحشا مسّ جدول
عناقيده عنك تسألْ.. وتسألْ
حبيبي تظل المنى في ارتعاش لآتٍ
يحيل اللهيب سلاماً وبردا
شلالاً لكوثر.. رفيف جناح وجنة عنبر
حبيبي وقلبي.. يظل الهوى فوق عينيك أجمل.