دهاليز الفساد في الدراسة الهندسية للمشاريع الإنمائية
د.عفيف رحمة د.عفيف رحمة

دهاليز الفساد في الدراسة الهندسية للمشاريع الإنمائية

في بلد يمر بطريق التنمية ويواجه الآثار السياسية والاقتصادية لاحتلال جزء من أراضيه ويسعى جاهداً للإفلات من مشاريع الغرب المزمنة لإعادته إلى المنزول الرأسمالي، تظهر أهمية وضرورة انسجام جميع قطاعات المجتمع وتوافقها دون إستثناء في تحمل مقتضيات التنمية وضوابطها باعتبارها الرؤية السياسية الاقتصادية الموضوعية لتقدم سورية في نهضتها الوطنية.

 

ضمن هذا المنظور لا يمكن للقطاع الهندسي أن يستقل أو ينفصل عن هذه الرؤية، وهذا يقتضي منه أن ينظر للمشاريع بمنظار التحدي للزمن والتحدي للواقع الاقتصادي المحدود بطاقاته المالية، والتركيز على استثمار الموادوالموارد المحلية دون إخلال بمعايير الجمال والجودة؛ فهم ومنهج لا بد وأن يساعد على التوظيف المالي الأمثل لإنجاز أكبر حجم من الأعمال والمشاريع الإنتاجية والخدمية دون إرهاق للدولة والمجتمع.

ينطلق المشروع، قبل مرحلة التنفيذ، من فكرة ذات سمة سياسية اقتصادية تترجم فنياً ومالياً عبر الدراسات الأولية ليتحول لاحقاً بعد وضع دراساته التنفيذية إلى مشروع معد للتنفيذ بالمعنى الفني والمالي المتكامل.

في مرحلة الدراسات الأولية يعمل المهندس الدارس على تقديم دراسة تبريرية تبين البرنامج الوظيفي، المساحات الاستثمارية، الكلفة التقديرية، الجدوى الاقتصادية، مواد وطرق التنفيذ، الآجال والبرامج الزمنية المستحقة...، فيهذه المرحلة يشترط في المهندس الدارس توافر ثقافة عامة وشاملة بمختلف قضايا المجتمع، الاقتصادية الاجتماعية البيئية الثقافية التاريخية... كما ويشترط في مرحلة الدراسات التنفيذية الامانة العلمية والتوظيف الفنيوالهندسي السليم كما يشترط فيه توفر الخبرة والكفاءة ومستوى من الثقافة الاقتصادية لإنتاج إضبارة هندسية تتسم بأفضل الحلول الفنية الهندسية والاقتصادية التي تأتي إسقاطاتها الملموسة لاحقاً في مرحلة التنفيذ ومرحلةالاستثمار.

في العقود الثلاثة الأخيرة طرحت الدولة حجماً هاماً من المشاريع كالتجمعات السكنية، المشافي، أبنية تربوية وجامعية، منشآت ومبان إدارية، مراكز ثقافية ومتاحف وغيرها من المشاريع التي يفترض أن تنفذ في إطار المفهومالتنموي، فهل تفاعل المهندسون بشكل صحيح مع هذ الرؤية ؟! وهل برعوا فعلاً في تحقيق هذه المتوالية الفنية؟ وهل عملت الهيئات الهندسية الحكومية، الجامعية والخاصة وفق هذه المنهجية العلمية؟

الوقائع والحقائق تشير لغير ذلك ومشاريع كثيرة تؤكد وجود خلل عميق في منهجية العمل والتفكير، ليس لعدم توفر الخبرات والكفاءات بل للفساد المتفشي في القطاع الهندسي المرتبط بشكل جوهري بظاهرة الفساد العام حيثتزاوج السلطة مع المال وترجيح الخاص على العام.

فماذا نقول عن مشروع تبين بعد إنجاز أعماله عدم توفر إحتياجاته من المياه اللازمة لتنفيذ عمليات الإنتاج مما استلزم إنقاذه بمشروع جر للمياه اللازمة للتشغيل. وكيف يعقل أن تزيد كلفة تنفيذ بناء إداري بمقدار ضعف المبلغالوارد في الدراسات الأولية، فقط! لأن الدارس استحسن استخدام مواد إكساء غالية الثمن بذريعة الجمالية والمعاصرة؟ وماذا نفسر تصدع عدد كبير من الأبنية المدرسية بعد فترة قصيرة من الاستلام النهائي لهذه الابنية، وهليتحدى القرار الإداري الرأي الفني ويتهاون بتنفيذ منشأة في منطقة ترسبات نهرية أجمعت نظم البناء العالمية على خطورتها، وهل يجهل المهندس وجود تنافس حقيقي معياره جودة الإنتاج بين الشرق والغرب ليعتمد فيدراساته الميكانيكية والكهربائية على نظم غربية غالية الثمن، وكيف نفسر التكتم على التكليف بالتراضي لفريق صغير من أعضاء الهيئة التدريسية لتنفيذ الدراسات الهندسية لإحداث جامعة حكومية جديدة بمساحاتها الشاسعة،دون احترام العلنية والشفافية والتنافسية.

في مواجهة التجاوزات التي ارتكبت من الهيئات الهندسية في القطاع الجامعي والخاص، وتوخياً للحد منها ارتأت الدولة تدخل هيئة التخطيط للمصادقة على الدراسات الأولية والتنفيذية إلا أن هذه الخطوة لم تكن بالمجدية، حيثلعبت عدة عوامل في عكس الأهداف المرجوة من هذا الإجراء.

من جملة هذه العوامل الزمن الذي لم يأت في خدمة هذه العملية، ذلك أن تأخر الهيئة في معالجة إضبارة المشروع، بحكم الترهل والفساد الإداري، كان يترافق مع زيادة عامة في الأسعار لم يكن بالمقدور احتسابها في عملية تدقيقكلفته المالية، ثنائية التأخير والزيادة في الأسعار وضعت فرقاء المشروع بعد إنجاز دراساته التنفيذية في خلافات عقدية نتيجة التباين بين الكشف التقديري وسعر الإرساء. أما العوامل الأخرى فتجلت غالباً بنقص الخبرةوالمستوى المعرفي الفني الهندسي الاقتصادي التنفيذي للكوادر المكلفة بمراجعة هذه المشاريع، دون أن نهمل أو نتناسى دور العلاقات الشخصية في طبيعة وشكل القرارات المتخذة.

من ناحية أخرى وسعياً من الإدارات العامة للتغلب على الزمن تبنت في عقودها نظام العمل بالمواكبة بين الفريق الدارس والفريق المدقق، لكن هذا النظام لم يرافقه وضع آليات توزيع المسؤوليات والتقسيم الزمني السليم بينالفريقين، كما لم يعنَ بتفصيل الشروط الجزائية وفق هذه المسؤوليات. ثغرات تم استثمارها ليصبح مبدأ التضامن والتكافل بين الفريقين، بحجة المواكبة، المخرج الأمثل لتحقيق مصفوفة الفساد، فانقلبت الآية واصبح تضخمزمن إعداد الإضبارة التنفيذية مبرراً قانونياً دون تدقيق لانعكاسات خروج المشروع عن فترة الخطة التنموية وما يترتب عن ذلك من آثار مالية سياسية واقتصادية.

في واقع هذه الممارسات ورغم كل هذه الإجراءات تظهر جملة من التساؤلات: كيفية تلزيم الدراسات ووفق أية أسس، كفاءة واختصاص الفريق الدارس وعلاقته بالنوعية الفنية للمشروع، صحة وجدية معايير التصنيف الفنيللعارضين التي أظهرت التجربة تباينها من مؤسسة إلى أخرى ومن لجنة إلى أخرى ومن مشروع إلى آخر، أسباب تحول العقود من مناقصات تنافسية إلى عقود بالتراضي، وغيرها من الأسئلة التي لا نجد الجواب عليها إلا فيزواريب الفساد وعند الجهات المانحة!

مما يؤسف له أن للجامعة وفروعها الهندسية حصة الذئب في قضية فساد المشاريع الهندسية، فتحت شعار ربط الجامعة بالمجتمع وفي جولات الحرب التي كانت تدار بين الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية من جهةوالجامعة من جهة أخرى، حظيت الجامعة في مراحل عدة من الانتصارات بامتيازات وصلت إلى حدّ الاحتكار الحصري في إعداد التصاميم والدراسات الهندسية لمشاريع الدولة والقطاع العام، في الوقت الذي كان ينتظر فيه أنتلعب الجامعة دورها الوطني التنموي المميز لتوافر الطاقات الفنية والتنوع المعرفي، كما كان يفترض أن تقدم الجامعة نموذجاً يحتذى به عن احترام القوانين والأنظمة وعن تحقيق العدالة والمساواة في فرص العمل واستثمارالكفاءات والمهارات في عملية تنافسية سليمة، لكن الحقيقة كانت على الضفة الأخرى لأسباب ذاتية لا موضوعية، حيث ساهمت الجامعة في استفحال قضية الفساد وفي تطوير آلياته،...

الاعتماد في أنجاز التصاميم والدراسات الفنية على مهندسين حديثي التخرج قليلي التجربة والخبرة الهندسية والفنية، استثمار مهندسي الجهات العامة صاحبة المشروع المكلفين بالتدقيق لتنفيذ أعمال الدراسات، عدم الاهتمام فيمراجعة الدراسات وتدقيق الحلول الفنية والكلفة المالية.

انشغال أعضاء الهيئة التدريسية في تتبع المناقصات والقضايا المالية والإجراءات الإدارية، اعتماد الصيغ التشاركية المبطنة بين الجهة الدارسة والجهة المدققة لتوزيع الأدوار والمهام والتفاهم على آليات العمل والتحكمبالبرنامج الزمني والتوافق على صيغ المراسلات المتبادلة بما يضمن تبييض أسباب التأخير أو تبرير التعديلات الممكنة فنياً ومالياً.

وفق هذا المستوى من العلاقات غالباً ما جاءت الدراسات ضعيفة وغير متقنة وفي أحيان أخرى غير اقتصادية، ونادراً ما استوفت الإضبارة التنفيذية شروط إعدادها: نقص في المخططات والتفاصيل التنفيذية، عدم وجود مطابقةبين مختلف الاختصاصات، دفاتر شروط فنية مستنسخة من مشاريع أخرى مع كل الأخطاء المحتملة، استهتار في تدقيق مواصفات المواد وصحة توفرها في السوق المحلية، ارتكاب أخطاء في حساب الكميات، مبالغة في التقييمالسعري للفقرات المهنية بغرض تضخيم الكشف النهائي، سقوط بعض الفقرات المهنية من جدول تحليل الأسعار مما يستدعي لاحقاً توقيع ملاحق عقود أخرجت كلفة تنفيذها من ضوابط المناقصات.

من على منصات الفساد هذه تمّ: شخصنة القوانين والإجراءات الإدارية، تحويل الأنظمة العامة إلى علاقات خاصة، استثمار النفوذ الحزبي والارتباطات الشخصية؛ وبظل هذه الممارسات تحول الفساد إلى تقاليد وأعراف؛ وفيظل هذه البيئة تفوق هاجس الربح على همّ الجودة، وتركزت الجهود وانصبت النوايا للإلتفاف على الأنظمة والتشريعات بدلاً من الاجتهاد في تنفيذ دراسات متقنة.

هذه بعض من أوراق فساد القطاع الهندسي حيث الجامعة أحد معارجه، وبعض من الممارسات التي نجد اليوم أنفسنا أمام حتمية مواجهتها في ظل هذه الأزمة الوطنية التي جعلتنا ملزمين بإعادة طرح بعض الأسئلة التي أهملتأو تم التغاضي عنها قصراً في الماضي.

وفي ظل واقعنا الحالي أصبح تدقيق ممارساتنا واجباً وطنياً، وأصبحت قضية التصدي للفساد من أولويات مهامنا، وبات واضحاً أننا لن نستطيع تحقيق خطوة نحو الأمام إلا بإعادة النظر بالنظم والتشريعات التي استثمرت يوماًلحرف إرادتنا الوطنية ورؤيتنا الطبقية.